لقد قيد الله الأمة من بحفظ عليها قيمها عبر العصور والظهور بوجود العلماء النبغاء، ومن هذا بلاشك ابن خلدون ذلكم العالم الاجتماعى الموسوعى.
وقد بين د عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية أن نشأة ابن خلدون والبيئة المحيطة به كان لها عامل كبير فى تكوينه العلمي.

وأضاف فى بحثه المميز عن هذا العالم الكبير أن المرحلة التاريخية الخلدونية وأثرها على أفكار ابن خلدون:
ـ من البديهي أن عبد الرحمن بن خلدون التونسيّ ، المولود في غرّة رمضان سنة (732هـ/
(27 مايو 1332م) قد خضع لنظام التربية والتعليم السائدين في بلاد المغرب العربي الإسلامي ، فإذا أضيف إلى هذا أنه عاش في المنطقة المغربية أكثر من نصف قرن (732 ـ 784هـ) أدركنا كيف كان تأثير الحياة المغربية قوياً عليه اجتماعياً، وثقافياً، وتعليمياً ، لدرجة أنه لم يستطع التخلص من اللباس المغربي ، حتى وهو قاض في مصر .
ـ ونستطيع أن نقول أيضاً إن المرحلة التي ربما استغرقت عقدين من عمر ابن خلدون وهي التي نسميها مرحلة التعليم الأصلي كانت تمثل الأرضية التعليمية والتربوية ـ بكل إيجابياتها وسلبياتها ـ التي فرضتها طبيعة المنهجية السائدة في التعليم والتربية، ومستوى التطور الحضاري، ومستوى الضغوط السياسية ، والاجتماعية؛ التي لا يمكن إهمال تأثيرها ...
ـ لقد كان من قدر الله على عبد الرحمن بن خلدون أن يعيش في القرن الثامن الهجري في بلاد المغرب العربي .. والزمان ، والمكان معاً كانا يمثلان مرحلة انحطاط حضاري أفرزتها مسيرة التخلف التي انتهت إليها الأمة الإسلامية بعد سقوط الدول الجامعة الكبرى ؛ كالعباسيين في المشرق (132 ـ 656هـ) ، والأندلس في المغرب تلك التي انتهت الخلافة الأموية فيها سنة (422هـ)، ومرت الأندلس بعصر طوائف حفل بكل الموبقات حتى استولى المرابطون عليها سنة 479 هـ وخلفهم الموحدون ، ومن ثم لم يبق من بلاد الأندلس سوى (غرناطة ووادي آش) عقب هزيمة الدولة الموحدية الجامعة التي وحّدت المغرب والأندلس ـ تقريباً ـ في موقعة العقاب سنة (609هـ) أمام نصارى الشمال فانفرط بالتالي عقد الأندلس!!
ـ انتقلت العدوى إلى الشمال الأفريقي، فتمزق المغرب الذي كانت تحكمه ـ مع الأندلس ـ دولة الموحدين الجامعة (524 ـ 667هـ / 1130 ـ 1269م) بين قوى طامحة متصارعة ثلاث هي :
1ـ بنو مرين في المغرب الأقصى (592 ـ 869هـ / 1196 ـ 1465م) الوريث الأول للموحدين، وكان أبرز حكامها في حياة ابن خلدون أبا الحسن علي بن عثمان ؛ الذي ولّى سنة ميلاد ابن خلدون (732هـ)، ثم جاء بعده أبو عنان فارس المتوكل بن علي؛ الذي ولّى سنة (794هـ)، ثم كان من أشهر حكام بني مرين بعد ذلك أبو زيان محمد الثاني المنتصر، وأبو زيان محمد الثالث السعيد ، وموسى بن أبي عنان المتوكل على الله ، وأبو العباس أحمد المستنصر (للمرة الثانية) التي ولّى فيها (789هـ) .
2ـ بنو حفص في تونس (625 ـ 982هـ/ 1228 ـ 1574م)
وكان من أشهر حكامهم في حياة ابن خلدون أبو يحيى أبو بكر الثاني المتوكل، ثم أبو حفص عمر الثاني (ولى سنة 747هـ لعام واحد) ، وأبو إسحاق إبراهيم الثاني المستنصر
(ولّي سنة 752هـ) ، وأبو عباس أحمد الثاني المستنصر (ولّى سنة 772هـ) ، وأبو فارس
عبد العزيز المتوكل (ولى سنة 796هـ).
3ـ بنو زيان (عبد الواد) في الجزائر (633ـ 961هـ/ 1236 ـ 1554م) :
ومن أشهرهم أبو حَمّو موسى الثاني بن يوسف، وأبو زيان محمد الثاني (ولّى سنة 761هـ) ، وأبو تاشفين (ولّي سنة 791هـ).
هكذا كانت أطراف القوى المتصارعة في المغرب.
أما بنو الأحمر في غرناطة ووادي آش (627 ـ 897هـ /1230 ـ 1492م) :
فمن أشهر حكامهم في حياة ابن خلدون أبو الحجاج يوسف الأول بن إسماعيل (تولى سنة 733هـ) ومحمد الخامس الغني بالله بن يوسف (ولّي سنة 755هـ ، وولى للمرة الثانية 763هـ) ، وأبو الحجاج يوسف الثاني بن محمد الخامس (ولّي سنة 793هـ).
ويبين أن المماليك في مصر والشام (648ـ923هـ/1250 ـ 1517م) :
كان من أبرزهم في حياة ابن خلدون الظاهر سيف الدين برقوق بن أنس الذي ولّي سنة
(784هـ) ومات سنة (801هـ) ، وكانت له علاقة بابن خلدون مع رعاية واهتمام به في أحيان كثيرة ، ومنهم الناصر ـ ناصر الدين فرج بن برقوق - الذي تولى في شوال سنة (801هـ) ، وكانت له علاقة بابن خلدون أيضاً.