نعمة الستر من أفضل النعم التي أنعم الله بها على عباده في الدنيا على الرغم من جهلهم وعصيانهم وآثامهم وجرائمهم، فكم من عبد يعصى الله ويقترف من الإثم ما تنوء منه الجبال، ومع ذلك يستره الله عز وجل ولا يفضح أمره، بالرغم من أنه لو افتضح أمره لسارت فضيحته علكة يلوكها الناس على ألسنتهم، إلا أن هذا العبد يجحد فضل هذه النعمة وهو يعلم خطورتها على نفسه ومستقبله.
ومن حكمة الله عز وجل أن الذي سترهم في الدنيا قد يفضح أمرهم في الأخرة، مالم يتوبوا إلى الله ويعجلوا بالسير في طريق الله المستقيم، فيوم القيامة هو يوم المكاشفة، فما كنت تستطيع أن تختبئ منه في الدنيا ويسترك الله فيه، لن تستطيع أن تستتر منه يوم القيامة، قال تعالى في سورة الكهف: " وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) ".
لذلك حري بالإنسان المسلم أن يعرف حق نعمة الستر عليه، وألا يستمرئ لنفسه أن يستمر في المعاصي وهو يعلم أن هناك رب يراه ويستره، فهل سألت نفسك ماذا ولو كشف الله ستره عنك في الدنيا وافتضحت معاصيك، كيف ستنظر للناس في العمل وفي البيت وفي الشارع وبين جيرانك وأصدقائك؟، فالله الذي يسترك وهو حيي ستير يحب الستر ويأمر به، ويبغض المجاهرين بالمعاصي، ألا يستحق منك أن تتوب إليه وهو يستر أمرك ويحفظ لك وقارك أمام الناس؟، ولا يفضحك على رؤوس الأشهاد، فلا يطلع الناس منك على القبائح أو الزلات، ولا تنكشف منك العورات، ولا تحتاج لإراقة ماء وجهك.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه " متفق عليه .
ومن رحمة الله بعبده المؤمن أن يستره في الآخرة، إلا الكافرين والمجاهرين بالمعصية في الحياة الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم " «إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وأَمَّا الكَافِرُ والمُنَافِقُونَ، فيَقولُ الأشْهَادُ» : { {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} } [هود: 18].» ".
اقرأ أيضا:
كل الأخطاء مغفورة عند الله.. إلا هذا الذنبأسباب استمرار الستر في الدنيا
ومن الأسباب العظيمة لنعمة الستر في الدنيا والآخرة: أن تستر المسلمين وتحفظ أسرارهم، والجزاء من جنس العمل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم " «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة» " وفي رواية " لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة" .
فانظر إلى قصة ماعزُ بن مالكٍ الأسلمي، أحدُ الأصحاب الأخيار ممن وقر الإيمانُ في قلبه، فآمن بربه، وصدَّق برسالة نبيِّه، وعاش في مدينة رسول الله يَحمل بين جنبَيه نورَ الإيمان، وضياء التَّقوى، بَيْدَ أنَّه لم ينفك عن بشريَّته، ولم ينسلخ من ضعفه الآدمي؛ ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].
فزيَّن له الشيطانُ فعلَ الحرام، وأزَّته نفسُه الأمَّارة نحوَ الفاحشة أزًّا، وفي ساعة الغفلة وسكرة الشَّهوة وقع في الإثم، وكان من أمره ما كان بأن عصى ربَّه، وأيقن أنَّ ذاك من عَمَلِ الشيطان؛ إنه عدو مضل مبين، فاحترق قلبه، ندمًا وأسفًا، وعاش أيامًا عدة في بُؤس وغمٍّ، وحسرةٍ وهمٍّ.
وعندها قرر ماعز أنْ يبوحَ بأمره ذاك إلى أحد بني عشيرته، وهو هزَّال بن يزيد الأسلمي، الذي أشار عليه أن يعترفَ ويقرَّ أمام النبي صلَّى الله عليه وسلم بخطيئته.
فوقف ماعز في حياءٍ واستحياء، ونطق بجُرمه ومَعصيته، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فكرر ماعز اعترافَه، وأقرَّ أربعًا، وألح على النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يُقيمَ حدَّ الله، فلم يكُن بدٌّ من إقامة الحد، فرجمه الصحابة حتَّى فاضت روحُه إلى بارئها، ثم صلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، واستغفر، وأثنى على توبته وصدقه مع ربِّه.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ هزَّالاً الأسلميَّ هو الذي أشار عليه بالاعتراف، دعاه ثم قال: ((يا هزَّالُ، لو سترته بثَوْبك، كان خيرًا لك مما صنعت به)).
وقد وصف الرَّحمن نفسه به، فهو سبحانه ستِّير يستُر كثيرًا، ويحبُّ أهل السَّتر؛ ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الله حَيِيٌّ سِتِّير، يُحب الحياء والستر))؛ رواه أبو داود والنَّسائي.
ومن أجل الستر أيضًا نَهى الإسلامُ عن التجسس على الآخرين؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾ [الحجرات: 12].
وأحقُّ الناس بالستر وكتم العيب هم ذوو الهيئات وأهل المروءة، الذين ليس مِن عادتِهم المجاهرة بالمعاصي، وليسوا من المسوِّقين للمنكرات، فالستر على هؤلاء يأتي في الصَّفِّ الأول والمقام الأكمل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاَّ الحدود)).
يقول الفضل بن عياض: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر"، ويقول الحسن البصري: كان يقال: مَن عَيَّر أخاه بذنب تاب منه، لم يَمتْ حتَّى يبتليه الله به.
ويقول الشاعر:
لَسَانُكَ لاَ تَذْكُرْ بِهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ
فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ
وَعَيْنُكَ إِنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَائِبًا
فَدَعْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنُ