سمع الخليفة أبو جعفر المنصور، وهو يطوف ليلا رجلاً يقول: "اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع".
فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه.
فصلى الرجل ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة، فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني .
قال : يا أمير المؤمنين، إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجزت منك واقتصرت على نفسي ففيها لي شاغل، فقال: أنت آمن.
اقرأ أيضا:
تفاصيل مقتل الإمام علي: رشوة ضخمة لقتله..وهذا مصير قاتلهقال الواعظ للخليفة أبي جعفر المنصور : لقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه، فبكى يوما بكاء شديدا فحثه جلساؤه على الصبر. فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرخ ولا أسمع صوته ثم قال: أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب.
وأمر الملك: نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا متظلم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره، وينظر هل يرى مظلوما. يقول الواعظ لأبي جعفر المنصور: فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه، وأنت مؤمن بالله ثم من أهل بيت نبيه لا تغلب رأفتك بالمسلمين على شح نفسك.
يقول : فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه وماله على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطي بل الله يعطي من يشاء ما يشاء.
وإن قلت إنما أجمع المال لتشديد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وأعدوا من الرجال والسلاح والخيل حتى أراد الله بكم ما أراد.
وإن قلت إنما أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال المنصور: لا، قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل؟ ولكن بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عقد عليه قلبك وعملته جوارحك ونظر إليه بصرك واجترحته يداك ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب؟
فبكى المنصور وقال: يا ليتني لم أخلق، ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسددوك.
قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك ولكن افتح بابك وسهل حجّابك وانصر المظلوم واقمع الظالم وخذ الفيء والصدقات مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل على أهله وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة.
وبنما هما على ذلك جاء المؤذنون فسلموا عليه فصلى المنصور صلاته، وعاد إلى مجلسه وطلب الرجل فلم يوجد.