بقلم |
أنس محمد |
الاربعاء 20 نوفمبر 2024 - 10:20 ص
خلق الله العبد وهو أعلم بأحواله من الضعف، والتمرد، والتقلب بين الطاعة والمعصية، ويتعين على العبد المؤمن الطالب للنجاة من النار ولدخول الجنة وللقرب من مولاه، أن يطلب ذلك بالأسباب الموصلة إلى رحمة الله وعفوه ومغفرته ورضاه ومحبته؛ فبها ينال ما عند الله من الكرامة؛ إذ الله سبحانه وتعالى قد جعل للوصول إلى ذلك أسبابًا من الأعمال التي جعلها موصلة إليها وليس ذلك موجودًا إلا فيما شرعه الله لعباده على لسان رسوله وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يقرب إلى الله ويوجب رضوانه ومغفرته، وأنه مما يحبه الله.
فالواجب على العبد البحث عن خصال التقوى وخصال الإحسان التي شرعها الله في كتابه أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينقلب قلبه، فالإنسان كلما ابتعد عن العمل الصالح كان فريسة للشيطان، وكان عرضة للتقلب من الطاعة إلى المعصية ومن الحلال إلى الحرام، لذلك حذر الله عز وجل من خبيئة السوء في القلب وهي أن يتجمل الإنسان بالعلانية في الدين أمام الناس، وإذا خلا والتقى بالله جعل الله عز وجل أهون الناظرين له، فهذا هو الداء الخفي خبيئة السوء.
فأخطر ما يواجه الإنسان في حياته قضية انقلاب القلوب وتمرده على طاعته بارتكاب معصيته، عند الوهن والضعف، والتي كان يستعيذ منها صلى الله عليه وسلم، وقد ضمن الله له الهداية والإسلام والجنة وعلى ذلك أكثر ما كان يدعو "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وكانت عائشة تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء في كل حين فكان يقول لها يا بنت الصديق: "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك".
فينبه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه، إن هذا القلب الذي أعطاه الله فيه الإيمان قادر على أن يسلبه منه في أي لحظة من سيئات الأعمال وغرور الأنفس، فالذي يعطى قادر على أن يسلب، ولذلك يقول الحق سبحانه: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: من الآية30].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصف هذا القلب بتقلبه فيقول: "إن هذا القلب يتقلب أشد من تقلب القدر، إذا ما فار غلياناً".
فلقد صور النبي صلى الله عليه وسلم، القلب المتقلب كالقدر الموضوع على النار، تفور من تحته النار فتحرقه ، الماء الذي كان فيه بارداً رقراقاً يشرب هنيئاً مريئاً ثم تحول إلى حار حارق ذو فوران سريع لا ذرات تتقارب ولا فقاعات تتماسك و لا يستطيع أحد أن يلمسه لشدة فورانه وحرارته.
كما نبه النبي على أنه أشد من تقلب الريشة في مهب الريح، فالريشة لا تملك من نفسها شيئاً بعد انقلابها في مهب الريح فهي يسوقها التيار حيث اتجه وحيث شاء، ههكذا أصحاب القلوب المنقلبة تعصف بها الأهواء فلا إرادة لها، دائماً تسير حيث يسير التيار.
بادروا بالأعمال الصالحة
ولكي يكتب الله لك طريق النجاة من هذا القلب المتمرد، والمتقلب، نصح النبي صلى الله عليه وسلم، وأوصى أمته بالمبادرة قبل أن تنقلب القلوب، قائلا: "بادروا بالأعمال الصالحة، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل".
فانظر لدقة التعبير والوصف لهذا القلب المتمرد، في صباحه مؤمن، وفي مساءه كافر، باع دينه كله بعرض من الدنيا زائل.
وضرب النبي مثلا أخر في قصة برصيصا العابد، فقد كان رجل من أعبد الناس، جلس في صومعته لا يخالط العالم، اعتزل شرورهم وجاءه أخوان معهم أخت لهم، قد أصيبت بمس من الجن، فقالوا له: اقرأ عليها ارقها لعل الله يشفيها على يديك، وكانت جميلة حسناء، فقام فقرأ عليها فشفيت فكان إذا تركها عاد إليها الشيطان، فإن رقاها خرج منها فتركها أخواها عنده يعالجها فجلس هو في صومعته وجلست الفتاة في غرفة بعيدة عنه، وفي يوم من الأيام قال له الشيطان اجلس أنت على مدخل الصومعة والمغارة، وهي عند الباب تحدثها وتحدثك تذكرها بالله والآيات و النصائح، وفي اليوم التالي قدم لها الطعام بيدك.
قال أجلس معها بالداخل، ولما اختلى بها وقع بها فحملت منه وتورط وخشي الفضيحة إذا ولدت وجاءه الشيطان فقال له لم أنت خائف اقتلها هي وجنينها وادفنها لا يعلم بك أحد، وإذا جاء أخواها فقل: جاءها الشيطان فتلبسها فهلكت وأطاع الشيطان وذلك العابد فقتلها هي وجنينها ودفنها بعيداً، عن المغارة، فجاء أخواها وقالوا: أين اختنا فقال: تلبسها الشيطان وذهب بها، وقال الشيطان للأخوين لما خلا أحدهما إلى الآخر جاء لكل واحد فقال: أختكم فحش بها العابد فحملت فخنقها هي وجنينها وهي في المكان الفلاني، فذهبوا فحفروا المكان وجاءوا إلى العابد وعرضوه للصلب وجاءه الشيطان، وقال له: ما تقول: لا يملك تخليصك من هذا القتل غيري، أطعني، اسجد لي فسجد له، فلما سجد له وأشرك بالله تولى عنه الشيطان وهو يضحك .
فالبداية خطوة واحدة من خطوات الشيطان ثم هو في الدرك الأسفل من النار.. والله سبحانه يذكر هذا الصنف من الناس في القرآن فيقول: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف:175-176].