عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب، يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنتُ أُسهر ليلك، وأظمئ هواجرك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حلَّتين لا تقوم لهما الدنيا وما فيها، فيقولان: يا رب، أنى لنا هذا؟ فيقال لهما: بتعليم ولدكما القرآن .
يكشف حديث النبي صلى الله عليه وسلم أهمية تعليم الأبناء القرآن الكريم، فالحديث المذكور معناه في قوله: كالرجل الشاحب ـ قال السيوطي في شرح ابن ماجه: هو المتغير اللون، والجسم، لعارض من العوارض، كمرض، أو سفر، ونحوهما، وكأنه يجيء على هذه الهيئة؛ ليكون أشبه بصاحبه في الدنيا، بما يعني أن القرآن الذي سعيت له في الدنيا بحفظه وتعليمه لأبنائك حتى ظل وجهك شاحبا، سيأتيك القرآن سعيا يوم القيامة ليلبسك حلة الوقار.
كما ينبه الحديث الشريف، على أنه كما تغير لون حافظ القرآن في الدنيا لأجل القيام بالقرآن، كذلك القرآن لأجله في السعي يوم القيامة، حتى ينال صاحبه الغاية القصوى في الآخرة.
ويقول الحديث إن من أتعب نفسه بصوم النهار في الهواجر أي شدة الحر، وقيام الليل، كَأَنَّهُ يتَمَثَّل بِصُورَة قارئه الَّذِي أتعب نَفسه بالسهر فِي اللَّيْل، وَالصَّوْم فِي النَّهَار.
فالقرآن يتقدم صاحبه، ويتقدم كل تاجر، فقد سبق صاحب القرآن كل من قدم أي عمل، وقوله: فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله.
يقول البغوي في شرح السنة: وَقَوْلُهُ: يُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ ـ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ شَيْئًا يُوضَعُ فِي يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ: يُجْعَلُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْخُلْدُ، وَمَنْ جُعِلَ لَهُ شَيْءٌ مِلْكًا، فَقَدْ جُعِلَ فِي يَدِهِ، وَيُقَالُ: هُوَ فِي يَدِكَ وَكَفِّكَ، أَيِ: اسْتَوْلَيْتَ عَلَيْهِ.
أما الوقار أي العزة، والتاج هو ما يصاغ للملوك من الذهب، والجواهر، والحلتان: مثنى حُلة، والْحُلَّةُ: إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَلَا تُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى تَكُونَ ثَوْبَيْنِ، وهاتان الحلتان لا تُعدلان بالدنيا وما فيها.
اقرأ أيضا:
لا تدع الإيمان ينقص في قلبك وجدده بهذه الطريقةونعمة القرآن العظيم من أعظم النعم التي منَّ الله بها على عباده المؤمنين، وقد اختصَّ الله - عز وجل - طائفةً من عباده المؤمنين بنعمة جليلة، ومنَّة غالية، وهي أن جعلَهم يحفظون هذا الكتاب القيِّم عن ظهر قلب، ورفع جدًّا من قدرهم، وعظَّم جدًّا من أجرهم، وأمر المؤمنين جميعًا أن يُجِلُّوا أمرهم، ويقدِّموهم على غيرهم، وذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأمر في أكثر من حديث؛ حيث قال في الحديث الصحيح: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين)).
يقول عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "ينبغي لحاملِ القرآن أن يُعرَف بليلِه إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يُفطِرون، وبحُزنِه إذا الناس يَفرَحُون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمتِه إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكينًا ليِّنًا، ولا ينبغي له أن يكون جافيًا ولا مماريًا، ولا صيَّاحًا ولا صخَّابًا ولا حديدًا".
وحفظ القرآن الكريم ليس بالمهمَّة السهلة البسيطة التي يَقدر عليها عموم الناس دون تفريغ الوقت والمجهود والطاقة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصِّيًا - أي تفلتًا - من الإبل في عُقُلِها))، وفي رواية أحمد: ((لهو أشد تفلتًا من قلوب الرجال من الإبل من عُقُلِه))، ومع ذلك فكل مهمَّة صعبة تصبح يسيرة على مَن يسَّرها الله - عز وجل - عليه، قال الله - عز وجل -: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].