هناك فرق كبير بين الحب بمعانيه السامية، من الاقتداء والاتباع وبين اللطف والذوق والرحمة، فالحب شيء والعدل والرحمة شيء آخر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذا الفرق في كل تعاملاته مع المشركين، حيث كان يتعامل معهم برحمته وعدله، فقد كان يتودد إليهم ويلاطفهم، ويرق لهم في الخطاب، بل كان يتجاوز ذلك إلى ثناءٍ ومدحٍ للمخالفين له، بل والمحاربين له.
حسم النبي
لكن ومع ذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حاسما في دينه، بل إن المشركين حينما ذهبوا لأبي طالب يطلبوا منه الوساطة في التفاوض مع النبي على نشر الدعوة، وحجبها عن أهل مكة، وبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا ابن أخي ، إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، للذي كانوا قالوا له ، فأبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ؛ فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكى ثم قام ، فلما ولى ناداه أبو طالب ، فقال : أقبل يا ابن أخي ، قال : فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اذهب يا ابن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا .
فانظر لحسم النبي صلى الله عليه وسلم حينما مس الأمر دعوته وما أمر به من ربه أن يبلغه، فلم يفاوض عليه، بل كان حازما، وقال قولته المشهورة: " ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ".
فالحب يعني الاتباع والاقتداء ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب المشركين لاتبعهم، ولو كان إبراهيم عليه السلام يحب قومه من المشركين لاتبعهم، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء حاسمين في مواقفهم، فقد كانوا يكرهون ما يفعله المشركون، وكانوا حاسمين مع ما يعرض عليهم من الكفر، رغم رقة قلوبهم مع أهليهم وأقوامهم، لكن لم يفت ذلك عضدهم من أن يحبوا في الله ويكرهوا في الله.
فانظر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يمدح سهيل بن عمرو وهو حينذاك من قادة المشركين حين جاءه يفاوضه في صلح الحديبية، ويقول للمسلمين: «لَقَدْ سَهُلَ أَمْرُكُمْ»؛ لما يعلمه من سهولة أمر سهيل بن عمرو وحسن طباعه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف أولى بالعدل والإنصاف، فقد كان يذكر الرجل بما هو فيه بالرغم من اختلاف الدين، فالنبي ذكر حسن طباع سهيل بن عمرو خلال التفاوض وسهولته في الحديث على بنود صلح الحديبية، وذلك من قبل إنصاف النبي وتقييمه العادل للرجال، ولكن هذا لا يعني أن النبي كان يلين في دين الله، بل كان حازما في كل ما يخص الدعوة.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حينما يرى رجلا يخشى منه ويهابه بشدة فيرق له النبي ويقول له: " هون عليك فأنا امرأة كانت تأكل القديد (كسر الخبز)من مكة.
وكان النبي فيوقت الشدة والحروب يقول أمام المشركين: " أنا النبي لا كذب انا ابن عبد المطلب".
وانظر إلى النبي وهو يتكلم عن خالد بن الوليد قبل إسلامه، وكان ذلك في العام السابع من الهجرة، أي بعد عدة مواقع حربية كان خالد بن الوليد فيها على رأس الجيوش المشركة، ومن أهمها غزوة أحد، وغزوة الأحزاب، ووقعة الحديبية..يقول رسول الله للوليد بن الوليد أخي خالد بن الوليد -وكان الوليد مسلمًا حينذاك-: «أَينَ خَالِدٌ؟» (يعني لماذا لم يُسلِمْ خالد؟) فقال الوليد: يأتي به الله. فقال : «مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الإِسْلامَ، ولَو كَانَ جَعَلَ نَكَايَتَهُ وجِدَّه مَعَ المسْلِمِين عَلَى المشْرِكِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ».
اقرأ أيضا:
الإيثار.. إحساس بالآخرين وعطاء بلا حدودالعدل والود ليس موالاة
بالرغم من عدواة خالد إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمتنع من الثناء على عقله، ويتعجب من كَوْنِه لم يدرك قيمة الإسلام مع شدة ذكائه وحكمته، ثم إنه يُثني على خبرته العسكرية وإمكانياته القتالية الفَذَّة، فيعلن أنه لو انضم للمسلمين فسوف يُقَدِّمُهُ على غيره من السابقين إلى الإسلام؛ وذلك لقناعة الرسول بمواهبه المتميزة في الحروب والمعارك، ولكن مع ذلك هل أحبه النبي وهو مشرك أو لاينه؟.. فهذا لم يحدث.
فليس سهلاً مطلقًا على قائدٍ أن يَمْدَح معاديًا له إلا إذا كان على درجة كبيرة من الأخلاق والحكمة والنزاهة.
فالنبي كان يمتدح الخلق أو الطبع أو العمل في حده، ولكن كان يفرق بين ذلك وبين الحب من ناحية الاتباع، فانظر أيضا للنبي وهو يمدح شعر لبيد بن ربيعة وكان آنذاك مشركًا، فقال رسول الله : «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ وكل نعيم لا محالة زائل».
فالرسول وإن كان لا يقول الشعر ولا يُكثِرُ من سماعه ما تَرَدَّدَ في مدح شاعرٍ مُشْرِكٍ عندما أجاد، هذا مع كثرة الشعراء المسلمين المجيدين أمثال حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم ن أجمعين.
وبالرغم من أن هناك بعض المشركين الذين رفضوا دخول الإسلام، إلا أن النبي امتدحهم، لما لهم من أخلاق عظيمة في بعض الجوانب، مثل مدحه لبني شيبان، الذين يسكنون في شمال شرق الجزيرة العربية على أطراف العراق، ويتحالفون مع دولة فارس العظمى آنذاك.. لقد عرض عليهم رسول الله الإسلام فاستحسنوا أمره جدًّا، وكانت ردودهم عليه في غاية الأدب، ولكنهم رفضوا صراحةً أن يدخلوا في الإسلام؛ خوفًا من كسرى فارس، ومع أن الأخلاق السلبية في الموقف كثيرة، إلا أن النبي تجاوز عن هذا، فقال النبي فيهم : «مَا أَسَأْتُمْ فِي الرَّدِّ إذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ دِينَ اللهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، أَرَأَيْتُمْ إنْ لَمْ تَلْبَثُوا إلاَّ قَلِيلاً حَتَّى يُورِثَكُمُ اللهُ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللهَ وَتُقَدّسُونَهُ»؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا. فتلا رسول الله : {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]، ثم نهض النبي فأخذ بيدي أبي بكر ، فقال: «يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيَّةُ أَخْلاَقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا أَشْرَفَهَا؛ بِهَا يَدْفَعُ اللهُ بَأْسَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ».
ومن التي تدل على إنصاف النبي احترام رسول الله لغير المسلمين ما كان يقوله ، ويحرص على تكراره من ثناء ومديح للنجاشي ملك الحبشة.. فإنَّه ما تردد r أن يقول بصراحة: «إِنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ.
وكما ذكرنا فالود يختلف عن الحب، لأن الود والعدل لا يعني الموالاة، فالحُبُّ في اللهِ، والبُغْضُ في اللهِ أوثقُ عُرَى الإيمان؛ قال تعالى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
فلا يَلزَمُ من الإحسانِ إلى الكافرِ محبتُهُ؛ فقد يُحسِنُ الشخصُ على ما لا يُتَصَوَّرُ محبَّتُه له؛ كقصَّةِ الإحسانِ إلى الكلبِ بسقيه الماء.
وبُغْضُ الكافرِ غيرِ المحاربِ لا يَستلزِمُ الاعتداءَ عليه، وسلبَه حقوقَهُ التي أوجَبَها اللهُ له، وإنْ كان كافرًا، سواءٌ كان في بلادِ المسلمين أو في بلدِهِ، فقد وَرَدَ التغليظُ في الاعتداءِ عليهم؛ فعن عبدِاللهِ بن عمرو عن النَّبِيِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».
فيجبُ الانتباهُ وعدمُ الخلطِ بين سماحةُ الإسلامِ في تعامُلِهِ مع الكفَّارِ على شتى مِلَلِهِم، وعدمُ هضمِهِم حقوقَهُم، وحُرْمةُ الاعتداءِ عليهم، وبين مُوَالاتِهِم ومحبَّتِهِم، فالأوَّلُ: أمرٌ واجبٌ، والثاني: مُحَرَّمٌ.
اقرأ أيضا:
كيف تصير عبدًا ربانيًا.. وتجعل الآخرة همك.. هذه أهم الوسائل