يضرب المثل بقارون في فتنة المال، حينما أفاض الله سبحانه وتعالى عليه بنعمه التي لا تعد ولا تحصى، لكنه قابل النعمة بالبطر والاستعلاء في الأرض، واستكبر أن يشكر الله على نعمه؛ وهذا الجحود فتنة قد تصيبنا كلنا جميعا، حتى وإن لم نصرح بها علانية مثل قارون، فالكثير من الناس حينما يهيه الله المال الكثير، تراه ينظر لنفسه بخيلاء، ويعتقد أنه أوتي هذا المال على علمه وذكائه، فيجحد حق الله عليه، لذلك حذر القرآن من فتنة المال.
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (غافر:5)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) .
قارون وفتنة الجحود
وقد حكى الله قصة قارون كاملة ليحذر المؤمنين من شرك قارون الذي وقع فيه، فقال -تعالى-: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ . فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ . وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ . تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:76-83).
هذه هي فتنة قارون التي حذر منها الله عز وجل، وما فَعله قارون أنه كان مِن بني إسرائيل فبَغَى على قومه وطغى بما أُوتيه من الأموال العظيمة المطغية، وأعطاه اللَّه من كنوز الأموال شيئًا كثيرًا ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، والعصبة من العشرة إلى التسعة إلى السبعة، حتى إن مفاتح خزائن أمواله لتثقل الجماعة القوية عن حملها، فقال له قومه: لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة وتفتخر بها، فإن اللَّه لا يحب الفرحين بها، (وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) فرد قارون على قومه قائلًا: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) أي: إنما أدركت هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب.
الله المتفرد بالعطاء
ربما يكون شعور قارون هو شعور الكثير من الناس أنه هو من استطاع أن يكتسب ماله بذكائه، فيستعلي به على الناس، ويجحد هذا الإنسان أن الله هو المنفرد بالعطاء والإحسان، قال تعالى: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)[النحل: 53].
فكلُّ خيرٍ يحوزه العباد هو إنعامٌ من الله عليهم، مِنْ هداية وإيمانٍ، وعلم ورزق وذريةٍ، بل حصولُ المنافعِ ودفعُ المضارِّ كل من عند الله.
فقد أمر الله عز وجل أن يستشعر العبد نعم الله عليه: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)[عبس: 24]، (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ)[الطارق: 5]، (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذاريات: 21].
حتى إذا امتلأ قلبُ العبدِ بالإيمان تحقَّقَت له نعمةُ شكرِ النعمِ، وصَلُحَت تصرفاتُه، وزكَت أخلاقُه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الحجرات: 7-8].
اقرأ أيضا:
وإن سألوك عن السعادة؟.. قل هذا مفتاحهاشكر النعم مفتاح الخير
فشكر الله على نعمائه مفتاحُ كلِّ خيرٍ، ويجعلُ لسانَ المسلم يلهَج على مدار يومه وليلته بالحمد لله ربِّ العالمينَ، ويستعمل هذه النعمَ في تحقيق مرضاة الله -تعالى-، فهذا نبيُّ الله سليمان -عليه السلام- يدعو ربَّه: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)[النمل: 19].
وهذا كليم الله موسى -عليه السلام- يعاهِدُ ربَّه: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ)[القصص: 17].
فإذا أقرَّ المسلمُ بنعم اللهِ أظهَر هذه النعمَ، تعظيمًا للمنعِم، شاكرًا حامدًا لا مُفاخِرًا ولا متكَبِّرًا: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضحى: 11].
وأمَّا مَنِ اغتَرَّ بنفسه وأُعجب بما وهَبَه اللهُ مِنَ النعمِ فنَسَبَها إلى نفسه فإن النعمة في حقه نقمة، والخير شر، والعافية بلاء، ففرعون قال: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي)[الزخرف: 51]، وكذلك قال قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[القصص: 78].
فمن أهم أسباب دوامِ النعم: شكر الله عليها : " ولئن شكرتم لأزيدنكم" ودعاء الله ليحفظها، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذُ بك من زوال نعمَتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطك"(رواه مسلم).
فشكر النعمة يجلب البركة، ويحفظ النسل، فكم من رجل غني يمتلك ملايين الجنيهات، ويمحق الله البركة من ماله، فلا تجد له ولدا نافعا أو صالحا، بل تجد أولاده هم من يجلبون عليه النقم بأعمالهم، ويتحول المال لنقمة ومفسدة، يكثر امام عينه ولكن لا يبلغ به السعادة.
قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ)[الأنعام: 44].