روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها: (أنها جاءتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزورُه، وهو مُعْتَكِفٌ في المسجِد، في العَشْر الأواخرِ مِن رمَضان، فتَحَدَّثَت عنده ساعَة مِن العِشاء، ثم قامتْ تَنْقَلِب (ترجع إلى بيتها)، فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُها (يردها و يمشي معها)، حتى إذا بلغت بابَ المسجد، الذي عِندَ مَسكَن أُمِّ سَلَمَة زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بهِما رجلان مِنَ الأنْصارِ، فسَلَّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نَفَذا (أسرعا)، فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: علَى رِسْلِكُما (مهلكما)، إنَّما هي صفيَّة بنتُ حُيَيٍّ، قالا: سبحان الله يا رسول الله، ـ وكَبُرَ عليهِما (عظُم و شقّ) ما قال ـ، قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّيطان يَجْري مِن ابنِ آدَم مَبلَغ الدَّم، وإنّي خَشيتُ أنْ يَقذِف في قُلوبِكُما).
سمعتك أغلى
تعد سمعة الإنسان من أغلى ما يمتلكه الإنسان، ليبيض وجهه أمام الناس، فالناس شهود على أنفسهم، فمن شأن وحال المسلم الابتعاد عن مواطن التُهم والشُبهات، والتحرز من كل ما يوقعه في تهمة أو شبهة، وذلك لأن مواطن الرِيبة والتهم قد تجر الناس إلى إساءة الظن به، وإطلاق ألسنتهم فيه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمَنِ اتّقى الشُبُهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضِه).
فرغم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حرص النبي أن يزيل ما في نفس هذين الصحابيين الأنصاريَّيْن، وخشية أن يلقى الشيطان في قلبيهما شيئاً، فيكون ذلك كفرا، أو يشتغلا بدفع هذه الوسوسة.
فسارع النبي صلى الله عليه وسلم، أن يبيّن لهما حقيقة الأمر، وقطع طريق الشك والوسوسة من الشيطان عنهما، فأخبرهما أن التي تقف معه هي زوجته صفية رضي الله عنها، ، لما تقرر عنده من صدق إيمانهما، ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك، لأنهما غير معصومين، فقد يفضي بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر إلى إعلامهما، حسماً للمادة، وتعليماً لمن بعدهما، إذا وقع له مثل ذلك.
وقد روى الحاكم أن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة فسأله عن هذا الحديث؟ فقال الشافعي: إنما قال لهما ذلك، لأنه خاف عليهما الكفر، إن ظنا به التهمة، فبادر إلى إعلامهما، نصيحة لهما، قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئاً، يهلكان به".
اقرأ أيضا:
كيف توازن بين "الخوف والرجاء" فى علاقتك مع الله؟وجبت بشهادتهم عليكم
والإنسان يتم الحكم على سمعته من خلال شهادة الناس عليه، فهو بالتالي لا يعيش بمفرده بل يعيش مع مجتمع يتأثر بأفعاله ويحكم عليه، وفي ذلك قال النبي صلى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-: "حينما مرت عليه جنازة فقدح الناس في صاحبها قال لهم النبي وَجَبَتْ"، ثم مَرُّوا بأخرى، فأَثْنَوْا عَليها، فقَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-: "وَجَبَتْ"، فقَالَ عُمرُ بنُ الخطابِ -رَضيَ اللهُ عَنهُ-: ما وَجَبَتْ؟، فقَالَ: "هذا أَثْنَيْتُمْ عَليهِ خَيرًا، فوَجَبَتْ له الجنةُ، وهذا أَثْنَيْتُم عَليهِ شَرًّا، فوَجَبَتْ له النارُ، أَنتم شُهَدَاءُ اللهِ في الأرضِ".
فينبغي على المسلم البعد عن مواطن التهم والريب، وأن يقي عِرْضَه من طعنات الألسن فيه، فلا ينبغي أن يُرى حيث تقع في أمره شبهة، أو توجّه له تهمة، ولو كان بريئاً منها وبعيداً عنها، فإذا اضطر لأن يقف موقفاً مشروعاً، وخاف أن يتطرق إليه عند الناس شبهة أو تهمة، فعليه أن يُبادر للتصريح بحقيقة حاله، والتعريف بمشروعية موقفه، إزالة للشبهة، وحفظاً لعرضه، وصيانة لقلوب الناس وألسنتهم.
وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لصاحبيه: (على رِسْلِكُمَا إنها صفية)، قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: "قال المهلب: فيه من الفقه تجنب مواضع التهم، وأن الإنسان إذا خشى أن يسبق إليه بظن سوء أن يكشف معنى ذلك الظن، ويبرئ نفسه من نزغات الشيطان الذى يوسوس بالشر فى القلوب، وإنما خشى عليه الصلاة والسلام أن يحدث على الرجل من سوء الظن فتنة، وربما زاغ بها فيأثم أو يرتد.
فأثر السُّمعةِ في قبولِ الأعمالِ، بل وإلى حُسنِ أو سوءِ المآلِ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا -هذا عملُها، ولكن ما هي سمعتُها؟-، قَالَ: غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، -فقالَ -عليهِ الصلاةُ والسلامُ- عن صاحبةِ هذه السُّمعةِ؟-، قَالَ: "هِيَ فِي النَّارِ". قَالَ الرَّجلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ -هذه عبادتُها، فما سمعتُها؟-، قَالَ: وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: "هِيَ فِي الْجَنَّةِ".
فالسمعةُ أطولُ عُمرًا من الإنسانِ، يموتُ وتبقى في الذاكرةِ وعلى اللسانِ، فمنهم من له السمعةُ الطَّيبةُ، كما قال -تعالى- في إبراهيمَ وذريتِه -عليهم السَّلامُ-: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)[الأنبياء:50]؛ قَالَ ابنُ عَباسٍ -رَضيَ اللهَ عَنهما-: "يعني: الثناءُ الحَسنُ"، ومنهم من له السمعةُ السيئةُ فلا مدحَ ولا عزاءَ، ولا حُزنَ ولا بُكاءَ، كما قالَ -تعالى-: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[الدخان: 27].
فسمعةَ الإنسانِ تنتقلُ إلى الأجيالِ والأولادِ، وقد يُحكمُ على الشَّخصِ من سيرةِ الآباءِ والأجدادِ، فها هي مريمُ تأتي إلى قومِها وهي تحملُ طِفلاً صغيرًا من غيرِ زوجٍ، فيقولُ لها قومُها: (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا)[مريم:27] عظيمًا، وذكَّروها بسمعةِ والديها الطَّيبةِ، فقالوا: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)[مريم:28]، وهكذا أثرُ السمعةِ لا تكونُ خاصةً بصاحبِها، بل تعمُّ من حولَه من الأقاربِ، فكم من شابٍ أو فتاةٍ صالحين قد تُركوا، بسببِ أبٍّ سيءِ الخُلقِ أو أمٍ شَرسةِ الطِّباعِ.