يتفرغ الطاعنون في الإسلام على مدار السنوات الماضية وبشكل مكثف للتجريح في الإمام البخاري، فربما لم يحظ أحد من علماء الحديث بمثل ما حظى به الإمام البخاري من إثارة للجدل والاختلاف على ما قدمه بين مؤيد يرى أن الرجل استطاع أن يجمع أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو مجهود عظيم، وبين آخرين شككوا في صحيحه، إما للطعن في السنة النبوية كلها وبالتالي النيل من أمة محمد صلى الله عليه سولم، وإما لنقد البخاري والتجريح فيما قدمه.
البخاري عرض صحيحه على العلماء 24سنة ليتأكد منه.
واسم صحيح البخاري كما رجحه ابن حجر: "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه".
ولا يعرف الكثير من الطاعنين في البخاري (194-256هـ)أنه قد عرض صحيحه على أهم علماء عصره مثل أحمد بن حنبل (241هـ\855م) وابن معين (233هـ\847م) وابن المديني (234هـ\848م).
، أي أن البخاري انتهى من تأليف صحيحه عام (232هـ\846م)، ثم أمضى 24 سنة من حياته يرحل في بلاد المسلمين ويُحدّث بصحيحه.
وكان البخاري في كل مدينة يزورها، يجتمع عليه آلاف من الناس يستمعون لصحيحه.
غير أن أكثر الجاهلين بالبخاري لا يعرفون كيف اجتهد هذا العالم لكي يستوثق من الأحاديث التي جمعها، وكيف أخذ من عمره سنينا لكي ينقل ما رواه الصحابة والتابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أدى واجبه نحو علم الحديث، خاصة وأنه كان مجردا من الحكم على أي حديث، وكل ما فعله هو أن نقل الحديث برواته وكل ما نسبه للنبي، وترك لعلماء الأصول والفقه واللغة الحكم على ما ينفع من الحديث، وبذلك يكون قد قام بواجبه.
فقد قام البخاري بعدة تعديلات طفيفة في صحيحه، خاصة في أسماء الأبواب. فكل رواية سُمّيت باسم راويها. وذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه "النكت على ابن الصلاح" أن عدد الأحاديث في كل الروايات هو نفسه لم يختلف. وقد سمع منه الصحيح قرابة تسعون ألفاً، ورواه عنه عدد من الرواة الثقات، أشهرهم محمد بن يوسف الفربري (231 - 320هـ\846 - 932م)، وقد سمع الصحيح مرتين: سنة 248هـ وسنة 252هـ. ومنهم إبراهيم بن معقل النسفي (295هـ\907م) و حمّاد بن شاكر النسوي (290 أو 311هـ\923م)، وآخرهم حسين المَحامِلي (330هـ\942م) و منصور بن محمد البزدوي (329هـ\941م).
كيف استوثق البخاري من صحيحه؟
لم يشترط البخاري ذكر كل حديث صحيح عنده في صحيحه، بل صرح بخلاف ذلك، وقد سأله تلميذه الترمذي عن عدة أحاديث لم يروها في صحيحه فصححها. لكنه جمع في حديثه أصح الأحاديث وفق شروط لم ينص عليها، لكن العلماء حالوا باجتهادهم معرفتها.
وذكر ابن حجر في كتابه النكت: أن أكثر هؤلاء الرجال الذين تكلم فيهم من المتقدين يخرج البخاري أحاديثهم غالباً في الاستشهاد والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم.
أي راوٍ أخرج له الشيخان في صحيحيهما فهو يحتمل أن يكون ذلك في الأصول ويحتمل أن يكون ذلك في الشواهد. ولا بد من الاستقراء لحسم الأمر. فإن قال واحد "إنما أخرجا له في الشواهد"، فلا يصح اعتراض من قال "بل احتجا له في الأصول" حتى يبيّن ذلك الحديث. فإذا بيّن، فالقول قوله، حتى يُثبِتَ الطرفُ الآخر أن لهذا الحديث شواهد ومتابعات، فيَخرجُ الراوي من طَور المحتجّ بهم.
فما عُلِم أن الشيخان قد احتجا به، فهذا يقوّي شأنه ويثبت عدالته، لكنه دون التوثيق الكامل.
ومن علامات الاستشهاد عند البخاري عبارة "قال لنا".
ولا يخفى على أحد دقة البخاري في اختياره لمفرداته. وقد احتاط لصحيحه ما لم يحتط لغيره من مصنّفاته. فتراه يقول في صحيحه: "وقال لي علي بن عبد الله" يعني شيخه ابن المديني. وفي تاريخه يقول في القضية الواحدة: "حدثنا علي بن عبد الله".
اقرأ أيضا:
حوار بين الأستاذ وتلميذه النجيب حاتم الأصم.. 8 مسائل فيها خلاصة العلم وحكمة الوجودطرق التحمل والأداء عند البخاري:
السماع من لفظ الشيخ: لم يفرق البخاري بين قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا.
القراءة والعرض على المحدث: رجح البخاري أنه لا فرق بين السماع من العالم والقراءة عليه (العرض) وأنهما متساويان. بمعنى إذا قرئ الرجل على المحدث فلا بأس أن يقول: "حدَّثَني".
لا البخاري يرى صحة الرواية بالإجازة المطلقة وإنما يرى صحة الإجازة المقترنة بالمناولة أو المكاتبة. وقد ذكر العلماء للمناولة ثلاثة أنواع هي:
1 – المناولة المقرونة بالإجازة مع التمكين من النسخة والرواية بها صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين.
2 – المناولة مع الإجازة من غير تمكين من النسخة، يرى الفقهاء والأصوليون أنه لا تأثير لها، ولا فائدة فيها بينما شيوخ الحديث يرون لذلك مزية معتبرة.
3 – المناولة المجردة من الإجازة أجازها طائفة من أهل العلم، وصححوا الرواية بها، وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على من أجازها وسوّغ الرواية بها.
والإمام البخاري يعتبر النوع الأول فقط. وأما النوعين الآخرين (وما يتفرع عنهما كالإعلام والوصية والوجادة) فهما من توسع المتأخرين بعد عصر الرواية محافظة على بقاء الإسناد.
متفرقات وفوائد عن البخاري وصحيحه:
1- الإمام البخاري كان من أئمة الفقه المجتهدين. وتبويبه يدل على فقه واسع وذكاء مفرط. وكم من حديث تظنه لا يتعلق بالباب ولكن بعد التأمل تجد أن فيه إشارة ولو بعيدة إليه. لكن هذا التفنن صار سيئة في صحيح البخاري لصعوبة الوصول إلى حديث معين. ولذلك تفوق صحيح مسلم على صحيح البخاري بحسن تبويبه.
2- وشرط البخاري في الرجال أشد من شرط مسلم، وهو أعلم منه بالعلل وبالفقه. وطريقته في العلل بصرية بحتة، وهي طريقة شيخه ابن المديني (إمام العلل). وأحمد ينهج نهجاً وسطاً بين الكوفيين والبصريين. ومسلم خراساني قريب من منهج أحمد (وهو من تلامذة أحمد الملازمين له)، ويحبذ نهج الكوفيين في العلل على نهج البصريين. والمنهج الكوفي يمتاز بالمرونة. وربما يصح أن نطلق عليه المتساهل المتشدد في آنٍ واحد أمام المنهج البصري. وأحياناً يكون المنهج الكوفي أشد، وخصوصاً في الرجال. وإمام المنهج الكوفي هو ابن معين.
3- غالب ألفاظ الأحاديث التي انتقدوها على البخاري قد أخرجها بلفظها الصحيح في موضع آخر من كتابه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (ص86)، وهو في "مجموع الفتاوى" (1|256): «ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري. بل كتاب البخاري أجلُّ ما صُنِّف في هذا الباب. والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعِلله، مع فقهه فيه. وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه. ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثاً اختُلِفَ في إسناده أو في بعض ألفاظه، أن يذكر الاختلاف في ذلك، لئلا يغترَّ بذكره له بأنه إنما ذكره مقروناً بالاختلاف فيه. ولهذا كان جمهور ما أُنكر على البخاري مما صحّحه، يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه. بخلاف مسلم بن الحجّاج، فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه». ثم ضرب أمثلة.