الكثير من المسلمين ربما يذهب إلى أداء شعيرة الحج المقدسة دون تحديد النية بشكل محدد، فالبعض قد تكون نيته طاعة الله سبحانه وتعالى في أداء الفريضة وإسقاطها لطالما كان قادرًا على أدئها، من حيث القوة والنفقة، قال الله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً، وعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَميقٍ.
والبعض الآخر يذهب لأداء الفريضة من أجل دنيا يصيبها كتحصيل المنفعة الدنيوية في البيع والشراء، واستغلال هذا الموسم العظيم في إنماء تجارته وبيع ما يمكن أن يروج بيعه في هذا الموسم العظيم، كبيع سجاجيد الصلاة والسبح والعطور وملابس الإحرام، وغير ذلك، قال الله تعالى: " لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، ويَذْكُروا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعلومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ، فَكُلوا مِنْهَا وأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ) (الحج: 27، 28).
والبعض ربما يذهب لمجرد أن يحصل على لقب "حاج" فيشنف بها آذانه من قبل العمال الذين يعملون لديه في المحل الذي يمتلكه، أو في الشارع أو الحارة، كوجهة اجتماعية.
وفي وسط هذا كله تضيع النية الصالحة من وراء هذه العيادة المقدسة، فقد جعل الله لعباده في أيامه أعيادًا ومواسم، يتذكرون فيها نَعماءه، ويشكرون آلاءه، ويحمدونه أثناءه على توفيقه لهم في ميادين الطاعة والعمل الصالح، والصفة الغالبة على هذه الأعياد والمواسم، هي أن الحقَّ ـ تبارك وتعالى ـ قد جعلها مناسبات لتجميع الأمة، وتأليف قلوبها، وتوحيدها في وجهتها وطريقتها، والتسامي نحو الوحدة التي يريد الله لعباده وأوليائه أن تكون متحققة فيهم على الدوام، ( وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52).
كما يريد ربنا عز وجل لهذه الأمة أن تكون متكافلة متضامنة، تبدو كتلة واحدة إذا تحركت بأجمعها؛ لأن كل جزء منها ملتئم مع بقية الأجزاء ومرتبط بها، ومن هنا صَوَّرَ الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ الأمة بهذه الصورة الرائعة فقال: “مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر”، كما قال: “المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشدُّ بعضُه بعضًا”.
ولا يوجد مجال لوحدة قلب الأمة المؤمنة مجتمعة متلاقية مثل عيد الحج الأكبر، الذي يمثل المؤتمر الإسلامي الأعظم، حيث تخرج الألوف بعد الألوف، من مشارق الأرض ومغاربها، ساعين إلى ربّهم، متحمّلين وَعثاء السفر ومشقّات الرحلة، ليتلاقَوا فيتعارَفُوا ويتآلَفًوا، ويتدارَسُوا ويتباحثوا، ويطلبوا الحلول لمشكلاتهم المختلفة، وليشهدوا منافع لهم، وليذكروا اسم الله في أيام معدودات، وليوفوا نذورهم، وليطّوّفوا بالبيت العتيق أول بيت وضع للنا
لماذا نحج؟
شرع الله الحجّ ليكون رحلة خالصة مخلصة لوجهه وفي سبيله، تتوافر فيها رياضة الحسّ والوجدان، وحمل النفس على التجرُّد من زينة الحياة، والإقبال بها على طاعة الله؛ ولذلك كان في الحج انتقال وارتحال، وإعداد للزاد، واحتمال لمشاقِّ السفر وتغير الأجواء، وتجرد من متاع الحياة، حتى في الثياب المألوفة والملابس المعروفة، وإقبال على الله بالحسّ والنفس، والعمل والقول، والذكر والفكر، فشعار المسلم منذ إحرامه هو نداؤه ودعاؤه ملبيا:” لَبّيكَ اللهمّ لَبيْكَ، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”.
ويترك المسلم في رحلته للحج وراءه كل شهوة تلاحقه، من خلال إقباله على الطاعات والقربات؛ لأنه سيحل ضيفًا على ربه عزّ وجلّ، حول بيته الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :” إن الله أوحى إليَّ: يا أخا المنذرين، يا أخا المرسلين، أنذر قومك ألا يدخلوا بيتًا من بيوتي إلا بقلوب سليمة، وألسنة صادقة، وأيدٍ نقية، وفروج طاهرة، وألا يدخلوا بيتًا من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة، فإني ألعنه ما دام قائمًا بين يديّ، حتى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيّين والصديقين، والشهداء والصالحين”.
وشرع الله الحجَّ ليعلم عباده كيف يترفَّعون عن الأحقاد والأضغان، ويتناسَون الشحناء والبغضاء، ويزهقون رُوح الخصومة والمعاداة؛ ولذلك جعل الله موسم الحج فرصة للإخاء والصفاء، والتنزه عن الخلاف والاعتساف، حتى في الكلام والحوار، والتطهر من كل أسباب التمرد والانحراف؛ ولذلك يقول أصدق القائلين سبحانه: (الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعلوماتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ ولاَ فُسوقَ ولاَ جِدالَ فِي الحَجِّ، ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه اللهُ، وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوَى، واتَّقونِ يا أُولِي الألْبابِ) (البقرة: 197).
الحج وهجر الحرام
وضع النبي صلى الله عليه وسلم فلسفة الحج من خلال قوله في فتح مكة : “إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكه – أي لا يقطع – ولا ينفَّر صيده، ولا تلتقط لُقَطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها” (أي لا يقطع نباتها الرطب الرقيق ما دام رطبًا).
فالحجيج في الأماكن المقدسة وفي بلد الله الحرام، هم ضيوف الله حول بيته، كأنهم في صلاة ممتدة الأجل طويلة الأمد، فهم يتحركون ويذهبون ويجيئون، وذكر الله هو الشغل الشاغل لهم، وتصفية قلوبهم هو الأمر المسيطر عليهم، وتطهير نفوسهم هو المقصد الأسمى من رحلتهم، حتى يتحقق فيهم ومنهم الحج المبرور الذي يجعل المرء وكأنه قد ولد من جديد، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة”. ولعل هذا لا يبعد عن مجال الحكمة في أن يطوف المسلم حول الكعبة طاهرًا متوضِّئًا كأنه في الصلاة.
فالحج فريضة تأخذ الإنسان بالتوبة، والتطهر من المآثم والمظالم، وتعلمه الرحلة في سبيل العقيدة، والتعب في سبيل المبدأ، وهي تعلمه أيضًا كيف يلتئم وينسجم مع إخوانه وكيف تنبسط يده بالبرِّ والإحسان، وتعوّده على التضحية والبذل، وهجرة المعاصي والحرام.
اقرأ أيضا:
كل الأخطاء مغفورة عند الله.. إلا هذا الذنب