لا يحب الإنسان الفشل، كما يضيق صدره في بعض الأوقات مما يكتبه القدر، فحين يعمل ويكد ولا يُكتب له النجاح فقد تنهار قوته ويسخط على ما كُتب له، ووقتها تتغير بوصلته ويضيع عمله، وهناك من يفقد البوصلة من الأساس، فلا يعرف أين وجهته ولأي شيئ يعمل، فيتيه بصره وتضيع بصيرته، لذلك اختلف منهج وعمل الصحابة رضوان الله عليهم اختلافا كبيرا عن المنهج الذي نعمل به، فقد كان منهجهم ينطلق من الإيمان بالله والتوكل عليه والرضا بقضائه.
ولعل أبا بكر الصديق، كان أكثر الناس تحديدًا لبوصلته، ونقطة الانطلاق التي ينطلق منها في العمل والتعامل مع محدثات الأمور.
كان التصاق الصديق أبي بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في رحلاته وغزواته وغدوه ورواحه، علامة فارقة في صناعة الرجل الذي وزن إيمانه إيمان المسلمين جميعا، بما فيهم كبار الصحابة، تصديقا لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأقسم عليه: " والله لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم"، فقد نهل أبو بكر الصديق من علم النبي صلى الله عليه وسلم، وآمن به وبنبوته وبعلمه وصدقه قبل أن يسمع منه، حتى اطمئن قلبه، وثقل إيمانه، وزاد علمه، واستنارت بصيرته.
ومن أفضل ما تعمله أبو بكر الصديق من النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ماتعلمه فضل، شيئان هما (التوكل – الرضا)، وقد كان هذان الشيئان العلامة الفارقة في تكوين شخصية أبي بكر الصديق وعمق فهمه، وكمال إيمانه.
فأكثر ما يدفع الإنسان إلى الأمام وإلى عمق الفهم والتفوق، هو التوكل بعد السعي والرضا بعد القدر، وهو ما فهمه أبو بكر في موضعين كانا نقطة التحوق في شخصية أبي بكر.
ماظنك باثنين
ولعل الموضع الأول في فهم أبي بكر لحقيقة هذه الدنيا، هي المعية الإلهية التي تأتي بالتوكل على الله حق توكله بعد إحكام التخطيط والعمل والسعي بكل ما أوتي من أسباب للنجاح، ثم ترك النتيجة على الله سبحانه وتعالى.
فإذان نظرنا للدرس الأول الذي تعمله أبو بكر من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان هذا الدرس في الغار حينما فزع الصديق فزعا كبيرا من وقوف المشركين على باب الغار وكانوا يلاحقونهم من أجل قتلهم، حتى استبد الفزع بقلبه، فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم طمأنه؟ ولكن لماذا هنا فزع أبو بكر واطمأن النبي صلى الله عليه وسلم .
لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما هاجر, أخذ كل الأسباب، انتهت مهمته، بقي الحفظ الإلهي، وهو واثق من هذا الحفظ، أما الآن: فقلقه أن يكون, قد قصَّر في إعداد الأسباب، هنا القلق، ليس خائفاً من أن يخلف الله وعده، لا، واثقٌ من نصر الله، ولكنه خاف الآن أن يكون الإعداد غير كافٍ، لم يكن مع الله طائعاً مئة في المئة، فكان إعداد غير كافٍ، فلذلك هنا في خوف من التقصير، أما في الغار فقد أعد كل شيءٍ عدته، وانتهى الأمر، وبقي التوكل.
لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام في شكٍ من نصر الله، فقُبيل المعركة قال لأصحابه:((سيروا على بركة اللّه، فإن اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين، واللّه لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم))
ولكن مسؤوليته مباشرة عن أصحابه, وعن الدين، الحقيقة: العبودية تعني أنك لا تستطيع التنبُّه بالغيب.
اقرأ أيضا:
يتعامل النبي مع المخطئين بطريقة رائعة.. تعرف على جانب مضيء من دعوته بالرفق واللبينالصمود أمام النكبات
أما الموقف الثاني يتجلى في رضا أبي بكر وصموده في النكبات، وهل هناك نكبة أعظم من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن شاء أن يرى إيمان أبي بكر في أحسن ساعاته، من شاء أن يرى الإيمان العلوي الموصول بقيّوم السموات والأرض، فليرَ هذا الإيمان يوم دعي الرسول إلى الرفيق الأعلى، هذا أخطر موقف وقفه سيدنا الصديق، فأجاب ورحل عن الحياة والأحياء، يوم تلفت المسلمون فجأةً, فلم يروا بينهم الأب الذي كان يملأ حياتهم حناناً، والنور الذي كان يملأ وجودهم ضياء, أين رسول الله؟ توفي، لم يكن أحداً منهم مستعد أن يقبل الخبر إطلاقاً، يومئذٍ تكشَّف جوهر هذا الإيمان، إيمان رجلٍ أعطى الله موثقه مع محمد، فإذا اختفى محمد بالموت, فإن هذا الإيمان لا يضعف بل يتفوق، ولا يجزع بل يحتشم.
وقف إيمان أبي بكر، يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفةً, ما كان يقدر عليها سواه، ما كان واحدٌ من أصحاب رسول الله, يقدر أن يقف وقفته, إلا هذا الصديق.
يومئذٍ وبعد أن صلى بالمسلمين، عاد الرسول إلى حجرته، وعاده أبو بكرٍ في حجرته -أي زاره- واستأذنه في أن يغيب عنه بعض الوقت، وذهب إلى داره بالعالية في أقصى المدينة، ومضى وقتٌ ليس بالطويل, قضى فيه بعض حاجات أهله، وإذ هو يتهيَّأ للعودة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا الناعي يقطع الأرض إليه وثباً، ويلقي عليه النبأ الذي يهدُّ الجبال، ماذا فعل أبو بكر؟.
حمد أبو بكر الله واسترجع، إنا لله وإنا إليه راجعون، -هكذا السنة- واختلطت دموعه الهاطلة بكلماته، وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، و أسرع بالسير رابط الجأش، قوي الجَلَد إلى بيت رسول الله.
لم يكد يقترب من المسجد, حتى رأى الفاجعة الكبرى، فقدْ فقَد المسلمون صوابهم، حتى إن عمر بن الخطاب القوي الراسخ، وقف بين الناس شاهراً سيفه صائحاً: إن رجالاً من المنافقين, يزعمون أن رسول الله مات، وإنه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه، والله ليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجالاً, زعموا أنه مات، ألا لا أسمع أحداً يقول: إن رسول الله مات, إلا فلقت هامته بسيفي هذا؟.
فإذا كان هذا سيدنا عمر اختل، فكيف كانت حال من سواه؟!.
لذلك كان أبو بكرٍ أحق الناس بأكبر قدرٍ من الأسى والذهول، فهو صديق العمر للنبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولة الحياة وشبابها، وهو الصديق، صديقه وصدّيقه منذ أول أيام الوحي والدين، وهو قد أحبه حباً, وآخاه مؤاخاةً تجعل الصبر على فراقه فوق طاقة البشر، لكن أبا بكر كان يبدو وكأنه لا تحركه طاقاتٌ بشرية، بل طاقةٌ إلهية حلَّت به.
أقبل أبو بكرٍ يكلم الناس، فلم يلتفت إليه أحد، ودخل على الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو مسجَّى في ناحية البيت، عليه بردةٌ حِبَرَة، فكشف عن وجهه ثم قبَّله، وقال: بأبي أنت وأمي, طبت حياً وميتاً، إن الموتة التي كتبها الله عليك قد متَّها، ثم ردَّ الثوب على وجه رسول الله، ثم خرج, وعمر يكلم الناس، فدعاه للسكوت، فأبى عمر أن يسكت، إلا أنه ظل مسترسلاً، فلما رآه أبو بكرٍ لا ينصت، أقبل على الناس يكلمهم، فلما رأوه، وسمعوه يتكلم, أقبلوا عليه منصتين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات, -نحن لا يوجد عندنا وثنية أبداً، ديننا دين توحيد، حتى النبي- ومن كان يعبد الله, فإن الله حيٌ لا يموت، ثم تلا هذه الآية:﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾.
إن أقصى ما كان ينتظر من سيدنا الصديق كلماتٌ توصي بالصبر، منح العزاء، ولكنه قرر كلمات التوحيد، الله حيٌ لا يموت.
اقرأ أيضا:
أول جمعة بالمدينة.. ماذا قال فيها النبي؟