بعض الناس لا يعرف البناء إلا على أنقاض الأخرين، وهذه العبارة إنما تتلألأ في معناها الحقيقي والمجازي، من خلال حادثتين نمر بهما ونعايشهما في كل يوم، سواء كان في الحي الذي نسكن فيه أو العمل الذي نعمل به.
فأما معناها الحقيقي فنراه جليًا حينما تجد بعض أصحاب الأملاك أو الانتهازيين يستكثرون على الفقراء بيوتهم في بعض الأماكن التي يقدر فيها سعر المتر بآلاف الجنيهات، فيطمعون في هدمها من خلال الضغط عليهم لشرائه بأبخس الأثمان، أو التحايل بسلوكيات الشيطان، والأعمال الخبيثة التي يعرفها عمال البناء، حينما يدخل أحدهم مدفوعًا من بعض الطامعين لعمل إصلاح بالبيت، ثم يقوم إحداث أي خلل فني به يؤدي إلى سقوطه وطرد سكانه تحت الضغط عليهم بوجود خطر على حياتهم.
وأما المعنى المجازي، فنلمسه في أعمالنا ووظائفنا، فهناك من الناس لا يستطيع أن يتقرب لرؤسائه، إلا بالفتنة والتجسس على زملائه لمرؤوسه، ونقل كل صغيرة وكبيرة في العمل لهذا المدجير أو ذاك، من أجل أن ينال استحسانه والقرب منه، على حساب زملائه والإيقاع بهم.
وهناك من يقوم بأبشع من ذلك، ولا يوجد المجال لذكرها، فمسالك الشيطان أكثر من أن نحصيها.
المستشار مؤتمن
هناك قصة للتابعي الجليل رجاء بن حيوة مع سليمان بن عبد الملك، يرويها رجاء بن حيوة نفسه ويقول: (إني لواقف مع سليمان بن عبد الملك في جموع من الناس، إذ رأيت رجلاً يتجه نحونا وسط الزحام، وكان حسنَ الصورة، جليلَ الهيئة، فما زال يشق الصفوفَ، وأنا ما أشكُّ أنَّه يروم الخليفة حتى حاذاني .
ظن رجاء بن حيوة أن الرجل الوقور يتَّجه نحو الخليفة، فإذا به يتّجه نحوه، "ثم وقف إلى جانبي وحيَّاني، وقال: يا رجاء, إنك قد ابتليت بهذا الرجل، وأشار إلى الخليفة، وإنّ في القرب منه؛ الخير الكثير والشر الكثير، فاجعل قربَك منه خيراً لك وله وللناس، واعلمْ يا رجاء أنه مَن كانت له منزلة من السلطان, فرفع إليه حاجة امرئ ضعيف لا يستطيع رفعها, لقِيَ الله جل وعز يوم يلقاه, وقد ثبَّتَ قدمَيْه للحساب ".
فأحياناً يكون للرجل صديق وهو مدير عام مؤسسة، إنسان بمنصب حساس، هذه العلاقة أنت مُحاسب عنها يوم القيامة، يا ترى هل يوجد رجل مظلوم له مشكلة عند هذا الرجل العظيم، وأنت صديقه؟ إذا كانت هناك فائدة تجنيها من هذه العلاقة, أنْ تنقل لهذا الإنسان الذي بيده الأمر مظلوميته ممَّن لا يستطيع نقلها إليه, أو أنت تعرف أناس مظلومين، والعلماء ما كانوا يجيزون لأنفسهم التقرُّب مِنَ الأمراء, إلا من أجل رفع ظلامات المسلمين إليهم .
إذا كان لك علاقة مع إنسان قوي، إنسان بيده الأمر، فهذه العلاقة يجب أن توظفها في سبيل إنصاف المظلومين، لا أن تحدثه بعلاقات ومودات وسهرات فقط, من أجل أن تشعر بالأمن، وتفتخر بأن صديق فلان بك وفلان باشا من أصحاب السلطة.
وتابع رجاء بن حيوة قول الرجل له: " واذكر يا رجاء أنه مَن كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته، واعلم يا رجاء أنّ مِن أحبِّ الأعمال إلى الله عز وجل, إدخالَ الفرح على قلب امرئ مسلم .
فالعظماء لا يسعدهم إلا أن يسعد الناس بهم، أما الصغراء فما دام بيتُهم فيه كل شيء، وطعامهم جيد، وأموالهم كثيرة، فليمت الفقراء ، لكنَّ عظماء الناس يسعدون بإسعاد الآخرين ، ويسعدون إذا رأوا البسمة على قلوب الناس .
فهناك إنسان كله خيرات، كله معونة، وهناك إنسان يبنى نفسه على أنقاض الناس، وعلى أخذِ ما في أيديهم، وعلى بثِّ الرعب في قلوبهم، فهذا أشقى إنسان، فإذا أردت أن تعرف مقامك, فانظر فيما استعملك، وفيما وظفك اللهُ عنده .
وتابع: "واذكر يا رجاء أن من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته, واعلم يا رجاء أم من أحب الأعمال الى الله؛ إدخال الفرح على قلب امرئ مسلم, وفيما كنت أتأمل كلامه, وأترقب أن يزيدني منه, نادى الخليفة قائلاً: أين رجاء بن حيوة؟ فانعطفت نحوه وقلت: ها أنذا يا أمير المؤمنين, فسألني عن شيء؛ فما كدت أفرغ من جوابه, حتى التفت إلى صاحبي فلم أجده, فنفضت المكان عنه نفضاً, فلم أقع له على أثر بين الناس" .
لا تكنْ إنسانًا يسبِّب الشر لإنسان، اجمع وقَرِّبْ بين الناس، والتمسْ لهم العذر، ودافعْ عنهم, يرضَ عنك الله، ولا تَبْنِ مجدَك على أنقاض الآخرين، أشخاص كثر يرتفعون على أنقاض أناس آخرين، فيحطِّم إنسانًا، ويعلو هو.
اقرأ أيضا:
أقسم به وفضله على غيره.. أسرار وثواب وفضل يوم عرفة ولماذا اختاره الله للحج الأعظم؟