عبر القرآن الكريم عن الأزمة أو المشكلة بالفتنة، ووضع لها الحلول وأشار في حلها إلى المخططات الناجعة، وضرب فيها أمثلة عظيمة من خلال ما تعرض له الأنبياء، واستقى منها فوائد جليلة وعملية تشير إلى التخطيط السليم في الخروج من أي أزمة، ومن أفضل ما تعرض له القرآن في إدارة الأزمات، الإشارة ليوم الأحزاب.
يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب: "لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)".
وقال تعالى "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) ".
هاتان الآيتان الكريمتان أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الذى كان موقفاً عصيباً، في صبره ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه، ولهذا قال تعالى للذين اضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: «لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة» أي: أنه أعطاهم أحد الأسباب للخروج من هذه الأزمة وهو الاقتداء بالنبي ولهذا قال: «لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا».
كيف يكون الخروج من الأزمة؟
أولاً: السعي
أَمْرُ اللهِ سُبحانه وتعالى بالأخذ بالأسباب والسعي، وما أروع المثل في قصة مريم التي أمرها بأخذ السبب في قصَّة ولادتها لسيدنا المسيح عليهما السلام؛ حينما أمر الله السيدة مريم بهزِّ جذع النَّخلة؛ أخذًا بسبب الرزق رغم ما بها من ضعف وحاجة؛ وبالرغم من أن قوتها لن تتحمل هز شيئا يذكر في النخلة لضعف مريم وقوة النخلة، ليلفت النظر إلى ضرورته وإن رآه العبد هيّنًا، قال سبحانه: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا..} [مريم: 25، 26]
لذلك لم يرضَ النبي صلى الله عليه وسلم لأمته التَّواكل، وترك الأخذ بالأسباب، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كُنْتُ رِدْفَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم علَى حِمارٍ، يُقالُ له: عُفَيْرٌ، قالَ: فقالَ: يا مُعاذُ، تَدْرِي ما حَقُّ اللهِ علَى العِبادِ؟ وما حَقُّ العِبادِ علَى الله، قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّ حَقَّ اللهِ علَى العِبادِ أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، ولا يُشْرِكُوا به شيئًا، وحَقَّ العِبادِ علَى اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ لا يُعَذِّبَ مَن لا يُشْرِكُ به شيئًا، قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ، قالَ: لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا» [مُتفق عليه].
و الأخذ بالأسباب من هدي النبيين والصالحين.
و أخذ الأنبياء بالأسباب، فهذا نوح عليه السلام يصنع السَّفينة هو ومن معه بوحي من الله سبحانه؛ أخذًا بأسباب النَّجاة، قال سبحانه: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37].
ويعقوب عليه السلام يقول لولده يوسف: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5]؛ إخفاءً للنعمة عن أعين الحاسدين وأسماعهم؛ لئلا يكيدوا له؛ أخذًا بالأسباب.
ويوسف الصِّديق يأخذ بالأسباب ويضع خطة لإنقاذ مصر من الجدب والمجاعة، ويتلوها على ملئه قائلًا عن القمح: {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِه} [يوسف: 47]؛ لئلا يتعفن، وتصيبه الآفات، والأمثلة في هذا الشأن كثيرة.
اظهار أخبار متعلقة
ثانيًا: تفويض الأمر إلى الله
التوكّل الصادق على الله، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوءٍ، فالمُستعان به هو الله -تعالى-، ولن يستطيع أحدٌ أن يُنفّذ خلاف ما اراد الله، فلو اجتمع النّاس جميعًا على أن يضرّوا الإنسان بسوؤءٍ لن يضُّروه إلا بالشيء الذي كتبه الله عليه، ولو اجتمعوا أن ينفعوه بشيءٍ لن ينفعوه إلا بشيءٍ قد كتبه الله له، فتفويض الأمر إلى الله دون الرّجوع إلى غيره إنّما هو الوسيلة الكُبرى؛ لتحقيق ما يرنو إليه الإنسان من أفضل الطُرُق وأخصرها.
ويجب تفويض الأمر إلى الله -تعالى- في كُل الأُمُور؛ لأنّه هو الذي بيده ملكُوت كُلّ شيءٍ، وهو القادر على كُلّ شيء، لاتدركه الأبصار، وهو يُدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، وقد قال الله -تعالى- في كتابه العزيز- حكاية عن مؤمن آل فرعون:” فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ”، فلمّا فوّض أمره إلى العزيز الجبّار؛ وقاه الله سيّئات ما مكروا، وأنزل بآل فرعون الذين لم يسمعون له، ويتّبعوا ما أخبر به سوء العذاب، وليس هُناك أشدّ من عذاب جهنّم التي وقودها النّاس والحجارة، والتي أُعدّت للكافرين.[2]
وهذه الآية كمثل الآية الأخرى:
( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) آل عمران /173 – 174.
فتفويض الأمر إلى الله تعالى، معناه التوكل على الله تعالى وحده.
وتفويض الأمر إلى الله تعالى ، والتوكل عليه : مطلوب في كل أمر مراد من أمور الدين والدنيا؛ وقد أمر به الوحي في نصوص كثيرة؛ ومن ذلك:
قال الله تعالى: ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) المائدة /23.
وقال الله تعالى: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ) النساء /81.
وقال الله تعالى: ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) هود /123.
وقال الله تعالى: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ) الفرقان /58.
لكن التوكل والتفويض الصحيح : لا بد أن يقترن به القيام بالأسباب المشروعة ، كما يشير إليه حديث أَنَس بْن مَالِكٍ؛ حيث قال: ( قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ) .