من يتأمل تعليمات الإسلام وإرشاداته يجدها تفوح عبيرًا كونها تعود على الإنسان نفسه بالخير، فالله تعالى حين أمر بالصدق كان ثمرة الصدق مجتمعا آمنا متعاونا متكاتفا يعطف فيه الكبير على الصغير ويرحمه ولا يكذبه ويخونه ويخذله.
من جانبه، يبين د. عادل هندي الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف أن رسالة الإسلام هي رسالة الأخلاق والقيم، وقد جعل الله سبحانه وتعالى من أهم غايات بعثة النبيّ الحبيب -صلى الله عليه وسلّم- التزكية والتربية على الأخلاق والقيم؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. ومن بين ما اشتهر في السنة النبوية، ويردده الناس: (إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق).
ويضيف أن المسلم الحقّ هو السائر على هدي نبيه الحبيب في التمسك بالأخلاق في أقواله وسلوكياته، وهو الناشر للحق بالحق، والناقل للصدق بالصدق، ولو ترك الناس الأخلاق الفاضلة وعاشوا بضدّها.
ويفت النظر إلى أن نبينا الحبيب -صلى الله عليه وسلّم- في ظلِّ واقع مجتمع مشـرك يعبد الأصنام، كان يتمثل الأخلاق الكريمة، حيث اشتهر بين قومه بالصادق الأمين، وما أخلّ بالصدق يومًا، وسارَت سيرته على كل لسان، وقد امتدحته امرأته وزوجه خديجة يوم نزل عليها الوحي الشريف، قائلة: (إنك لتصل الرّحِم، وتصدق الحديث...). كما نلاحظ أنَّ عظيمًا من عظماء الدنيا وقتئذ تساءل عن سمات الرسول وأخلاقه في القول والسلوك، حيث يحكي لنا الإمام البخاري -رحمه الله- في كتاب بدء الوحي، خبر أبي سفيان وقت الهدنة -في زمن صلح الحُديبية- حين وقف أمام هرقل عظيم الروم، وسأله عن صدق الرسول، فكان قول الرجل -وهو على الشـرك-: لولا مخافة أن تعيّرني العرب أن كذبت، لقلت إن محمدًا كذّاب!! لكن ما جرّبنا عليه كذبًا قطّ.. فكان ملخّص قول هرقل: (هكذا الرُّسُل لا يغدِرون ولا يكذبون). وصدق من قال: (والحق ما شهدت به الأعداء)!!
ويضيف أن العرب كانت تخاف أن تعيّر بالكذب والغدر.. وساروا على ذلك بعد الإسلام، إنَّ قيمة الصدق هي تلك القيمة التي اشتهر بها أهل الإسلام زمنًا طويلا، وبتنا نسمع أنّ تجار الغرب، كانوا يدوّنون على سلع تجارية عبارة (صنع في بلاد المسلمين)؛ على أساس بث الثقة في نفس المشتري نحو السلعة التجارية المُراد بيعها.
ثمرات الصدق وفوائده:
باب من أبواب الجنة، فالصدق يهدي إلى البر والخير من القول والفعل، والبر يهدي إلى الجنّة.
طمأنينة وهناءة عيش؛ ففي الحديث: "دعْ ما يرِيبك إِلى ما لا يَرِيبك، فإن الصدق طُمأنينة، وإنِ الكذب رِيبة"
وسيلة لاستجابة الدعاء، كما في حديث الثلاثة الذين أُجبروا على الدخول إلى غار، فلم يخرجهم من أزمتهم وانفراج الصخرة عنهم، إلا صدقهم فيما فعلوا بينهم وبين الله.
الصدق الذي به يكون الإنسان في صفوف الرجال الحقيقيين؛ قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله} [الأحزاب: 23]. فبالصدق يعلو شأن المرء ويكون من أهل الرجولة والمروءة.
قد يُقبل عُذر الحريص أو الخائف من شيء ما.. غير أنه لا عذر لمن يتخذون الكذب وسيلة لخداع الناس أو اقتناص فرص الحياة الزائفة الزائلة لأغراض دنيئة. وقد «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ»، وقد قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَاناً؟ فَقَالَ: «نَعَمْ». فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلاً؟ فَقَالَ: «نَعَمْ». فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّاباً ؟ فَقَالَ: «لاَ».
كيف نحقق الصدق في واقعنا المعاصر؟
ويبين د. هندي أنه يمكن أن نحقق الصدق في واقعنا في صور كثيرة منها:
1. الصدق مع الله في عهدنا معه بطاعته بما أمر والانتهاء عما نهى عنه.
2. الصدق عند البيع والشراء، بلا كذب أو مبالغة أو سوء ظن؛ فكلما كان البيعان صادقان، كلما بارك الإله في البيع أو الشراء، يقول صلى الله عليه وسلّم ((البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)).
3. الصدق عند الشهادة في حق إنسان؛ بحيث لا يكذب من أجل مصلحة مّا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. وفي الحديث المتفق عليه ((ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خَيرًا أو ليَصمُتْ))..
4. الصدق في التربية: ففي الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِيٌّ، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَخْرُجُ لِأَلْعَبَ، فَقَالَتْ أُمِّي: يَا عَبْدَ اللَّهِ تَعَالَ أُعْطِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ؟» قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ».
5. الصدق في الهمّة وصناعة المعروف: فــ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» وقد قرَّر ابن الجوزي بأنّ الراضي بالدّون دنيء.
6. الصدق عند المزاح: فقد ورد في الحديث عن بَهْزِ بن حكيم، حدَّثني أبي، عن أبيه، قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: "وَيْلٌ للَّذي يُحَدِّثُ فيكذِبُ ليُضْحِكَ به القومَ، وَيْلٌ له، وَيْلٌ له".
وسائل معينة على الصدق:
ويرشد د. هندي إلى أنه يمكن أن نتخذ عدة وسائل تعيننا على تطبيق الصدق في واقعنا ومن هذه الوسائل ما يلي:
مراقبة الله تعالى وتذكر أنّ الله عزّ وجلّ يسجّل على عباده كل شيء.
مرافقة أهل الصدق والبعد عن أهل الكذب؛ فالمرء على دين خليله.
تذكر حال وثواب الصادقين يوم القيامة، مع استحضار عقوبة الكاذبين في نياتهم وأفعالهم يوم القيامة.
التنشئة الاجتماعية داخل البيوت على الصدق، وألا يسمح الأب أو الأم أن يحيا بالكذب مع أولادهم في أقوالهم أو سلوكياتهم المختلفة؛ فالحذر الحذر.