جاء الإنسان إلى الدنيا وهي دار ابتلاء واختبار وعليه أن ينجح في هذا الاختبار حتى يفوز ويسعد في الدار الأبقى والأفضل وهي الدار الآخرة فيدخل جنة ربه ويهنأ فيها خالدًا مخلدًا في نعيم أبدي.
ولكن مغريات الدنيا والفتن فيها كثيرة ويقابلها في حركته وسعيه بالحياة وقد يقع في شباكها فتلهيه عن الاستعداد للآخرة والغاية التي خلق من أجلها فيرسب في الاختبار، ولكن ليس مطلوبًا من المسلم أن يترك الدنيا تمامًا ويتفرغ للعبادة والعمل من أجل الآخرة، بل عليه أن يحقق التوازن بين الأمرين فيسعى لكسب رزقه في الدنيا وينال نصيبه منها، وفي نفس الوقت تكون الآخرة والاستعداد لها نصب عينيه فيجتهد في العبادة وفي طاعة ربه، وإذا كان عليه في بعض المواقف عليه أن يغلب الدنيا أو الآخرة ويختار بينهما فعليه أن يغلب أمر الآخرة فهي خير وأبقى.
إن المؤمن الموفَّق يغلِّب آخرتَه على دنياه، ويسير في حياته على ضوء ما رسمه له مولاه، قال جل وعلا: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [الْقَصَصِ: 77]؛ فالمؤمن يأخذ بالأسباب ويبذل الوسعَ في تحصيل الرزق الحلال، ويعمُر الأرضَ بما يرضي الله -جل وعلا-، يستمتع بدنياه استمتاعا لا يضر بدينه ولا بآخرته، وهذا المعنى هو أحد التفسيرين في قوله -تعالى-: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) يقول ربنا -جل وعلا-: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [الْبَقَرَةِ: 201]، قال ابن كثير -رحمه الله-: “فجَمَعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع، وعلم نافع وعمل صالح ومركب هني وثناء جميل”.
وإن مَنْ جعَل همَّه الأكبرَ الآخرةَ والعملَ لها كفاه اللهُ هَمَّ دنياه، ومن استولت عليه الدنيا واستولت على قلبه وجعلها همَّه عاش عبدًا أسيرًا لها مفرقَ الهمّ، مشتتَ البالِ، لا يقنع بكثير ولا يسعد بيسير، قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يُؤْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ” (رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه)، قال العراقي: “إسناده جيد”، وصححه جَمْعٌ من أهل العلم، بحسب موقع "خطباء"..
المسلم شعارُه في هذه الدنيا قوله -جل وعلا-: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النِّسَاءِ: 77]، فحينئذ يتخذ من حياته مزرعةً لآخرته، لا يغلِّب عليها دنيا ولا يقدِّم عليها شهوة ولا هوى، استجابةً لقوله -جل وعلا-: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النِّسَاءِ: 77]، (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزُّخْرُفِ: 35].
فحر بكل مسلم أن يحذر من الاغترار بهذه الدنيا، وكن على وقاية من الغفلة والشهوة والهوى، قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فَاطِرٍ: 5]، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الْحَدِيدِ: 20].
ومما لا شك فيه أن من ألهته دنياه عن آخرته واتبع شهوته ولو خالفت شرعَ ربه وقع في الخسارة الكبرى وانتكس في الشقاوة العظمى، قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الْمُنَافِقُونَ: 9]، وقال سبحانه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) [مَرْيَمَ: 59-60].
ويقول صلى الله عليه وسلم: “تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ وَعَبدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ” أي: المعنى انتكس؛ أي: خاب وشقي ووقع في الخزي والبلاء.
في هذا الزمن تمكَّنت مغريات الدنيا في قلوب كثير من الناس واشرأبت لملذاتها وشهواتها نفوس كثير من المسلمين، فيجب أن يقف المسلمُ وقفةَ محاسَبَة ليتأمل الحقائق ويتبصر في العواقب (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الْكَهْفِ: 46]، وفي الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ -أي: نام- فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صائف ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا” (رواه أحمد والترمذي).
وفي تلك الوصية النبوية سمعَ استجابةٍ وقبولٍ وعملٍ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: “كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ“، وكان ابن عمر رضي الله عنهما- يقول: “إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ؛ أي: بعمل الآخرة، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك” (رواه البخاري).
اقرأ أيضا:
كل الأخطاء مغفورة عند الله.. إلا هذا الذنباقرأ أيضا:
كيف تشكر الناس بطريقة تجعلهم أسرى في خدمتك؟