حجّة الوداع هي الحجّة التي ودّع فيها النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- الصحابةَ -رضي الله عنهم- والأمة الإسلامية كلها؛ إذ كان يقول لهم أثناء أدائه مناسك الحجّ: (يا أَيُّها الناسُ خُذُوا عَنِّي مناسكَكم، فإني لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بعد عامي هذا).
وكانت حجّة الوداع في العام العاشر للهجرة، وتُوفّي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في شهر ربيع الأوّل من العام الحادي عشر للهجرة، وقد اختُلِف في عدد المرّات التي حجّ فيها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؛ فقِيل إنّه -عليه الصلاة والسلام- حجّ مرّةً واحدةً في الإسلام؛ وهي حجّة الوداع، ولم يرد ما يُثبت أنّه حجّ قبل الهجرة، أو لم يحجّ، بل ورد ما يدلّ على أنّه حجّ مرّةً واحدةً بعد الهجرة؛ لِما ورد عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- أنّه قال: (إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ في النَّاسِ في العَاشِرَةِ، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حَاجٌّ، فَقَدِمَ المَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ برَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ)، وقِيل إنّه -عليه الصلاة والسلام- حجّ قبل البعثة، وبعدها، إلّا أنّه لم يرد ما يُؤكّد عدد مرّات حجّه، ويمكن القول إنّ الثابت والصحيح أنّه -عليه الصلاة والسلام- حجّ مرّةً واحدةً بعد الهجرة؛ وهي حجّة الوداع.
وقد تضمن وصايا النبي في حجة الوداع هذه الأمور العظيمة:
أوصى النبي بالاعتصام بكتاب الله، وسنته صلى الله عليه وسلم أمانًا وعصمة من كل ضلال، وتجنب شرك الجاهلية وطريق الشيطان.
يقول النبي: « أَما بعد أَلاَ أَيُّهَا الناس فإنما أَنا بَشر يوشك أن يأتى رسول ربى فأجيب وأَنا تارك فيكمْ ثقلين أولهما كتاب اللَّهِ فِيه الْهدَى وَالنور فخذوا بكتاب اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ » [رواه مسلم].
كان النبي يعلم بأن أمته سترى اختلافًا كبيرًا من بعده في الأفكار والمذاهب والعادات والتقاليد المترسخة وهو ما يمكن أن يودي بها مسالك التهلكة لولا تمسكها بالطريق القويم.
ويقول صلى الله عليه وسلم في خطبته: «إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، وَلَكِنَّهُ إِنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، فَقَدْ رَضِيَ بِهِ مِمَّا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ»[ أخرجه أحمد]
أوصى النبي بتحريم سفك الدماء كحرمة البيت والشهر الحرام، وتحريم التنازع والتطاحن والفرقة كما أوصى بحرمة الأموال والأعراض بين المسلمين
يقول النبي في الخطبة: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلَقْوَنْ رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» [رواه البخاري]
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة الدماء والأموال والأعراض أيضًا في خطبته يوم النحر، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أي يوم أعظم حرمة؟ قالوا: يومنا هذا، قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: شهرنا هذا، قال: فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: بلدنا هذا، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا، هل بلغت! قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد» [رواه مسلم].
أوصى النبي بتحريم الظلم والربا والسرقة ونهب الأموال بالباطل، وتحريم العبث بالأشهر الحرم على عادة الجاهلية.
يقول رسول الله في خطبته: « ألا إن كل ربًا من ربًا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع» [رواه أبو داود]
وجاء في السيرة النبوي لابن هشام أن النبي أوصى أصحابه في الخطبة بتحري الأمانة مذكرا إياهم بلقاء الله.[السيرة النبوية:605]
وقول النبي في منع التلاعب في الشهور « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم » [رواه أبو داوود]
أوصى النبي بنبذ العصبية والقبلية وفوارق اللغة والأنساب والعرق، فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.
وقال النبي بوضوح لمنع الثأر والعصبية القبلية: « ألا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، ودماء الجاهلية موضوعة » [رواه ابن ماجة]
وتسامح النبي في دم ابن عمه الذي قتله هذيل، وهو درس في حقن الدماء، فيقول: « وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ » [رواه مسلم]
أوصى النبي بدعم الرباط بين قلوب المؤمنين، ورعاية الأهل وصلة الأرحام .
ونتأمل وجاء في السلسلة الصحيحة أن النبي حرص على تأصيل مبدأ الأخوة في الإسلام . أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم ..اللهم هل بلغت ؟ فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم فقال رسول الله ﷺ اللهم اشهد [صححه الألباني]
أوصى النبي خيرًا بالنساء، وتأكيد حقوقهن وكرامتهن
يقول الحبيب في خطبته ما يفيد توازن العلاقة الصحية بين الرجل والمرأة ومنع العدوان بينهما، ولو أخطأت المرأة يجوز تأديبها برفق، ولها حقوقها من مأكل وكسوة ومعاملة بالمعروف، فالمرأة عند زوجها أمانة وطبيعتها ضعيفة وقد استحللها بكلمة الله.
يقول النبي: «أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقًا ، ولهن عليكم حقًا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي» [رواه الترمذي]
أوصى الحبيب بالسمع والطاعة للحاكم ما أطاع الله ورسوله في رعيته
فقد ورد إلينا حديث برواية جابر بن عبد الله يقول النبي: « اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ » [صححه الألباني]
وفي هذا اليوم الذي ألقيت فيه خطبة الوداع نزل قول الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ} [المائدة: 3] وعندما سمعها عُمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنّه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وكأنّه استشعر وفاة النبيّ صلوات الله عليه وسلامه.
اقرأ أيضا:
قصة النار التي أخبر النبي بظهورهااقرأ أيضا:
الحسن بن علي هكذا تصرف سبط النبي عندما قطع معاوية عطاءه .. أعظم صور اليقين بالله .. تعرف علي القصة