معركة بلاط الشهداء أو معركة تور، هي معركة دارت في رمضان 114 هـ /أكتوبر 732م في موقع يقع بين مدينتي بواتييه وتور الفرنسيتين، وكانت بين قوات مسلمين تحت لواء الدولة الأموية، بقيادة والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي من جهة، وقوات الفرنجة والبورغنديين بقيادة شارل مارتل) من جهة أخرى، وانتهت بانتصار قوات الفرنجة وانسحاب جيش المسلمين بعد مقتل قائده عبد الرحمن الغافقي.
أشاد المؤرخون المسيحيون المتأخرون في فترة ما قبل القرن العشرين بشارل مارتل وعدّوه بطل المسيحية، واصفين المعركة بنقطة التحول الحاسمة في الكفاح ضد الإسلام، مما حفظ المسيحية كديانة لأوروبا.
ووفقًا للمؤرخ العسكري الحديث فيكتور ديفيس هانسون، فإن معظم مؤرخي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، رأوا أن المعركة أوقفت المد الإسلامي في أوروبا، لذا عدّها رانكه علامة فارقة في واحدة من أهم الحقب في تاريخ العالم.
وعلى النقيض، انقسم المؤرخون الحديثون الآخرون حول أهمية المعركة، واختلفوا حول ما إذا كان الانتصار معقولاً ليكون سببًا لإنقاذ المسيحية وإيقاف الفتح الإسلامي لأوروبا.
إلا أن المعركة أسهمت في تأسيس الإمبراطورية الكارولنجية وهيمنة الفرنجة على أوروبا في القرن التالي. ويتفق معظم المؤرخين على أن نشأة القوة الفرنجية في أوروبا الغربية حددت مصير القارة، وأن هذه المعركة أكدت سلطتها.
وأطلقت المصادر العربية على المعركة اسم معركة بلاط الشهداء، تخليدًا لذكرى قتلى المسلمين، ويُستَشَفُّ ذلك من رواية ابن حيان القرطبي، ونقل عنه، أن الأذان لبث عصورًا طويلة يسمع في موقع المعركة.
لا تتفق المصادر على تاريخ بدء وانتهاء المعركة وكم كانت مدتها، استمرت المناوشات بين الفريقين لأيام، إلى أن لجأ المسلمون للهجوم في اليوم الأخير بفرسانهم على جيش شارل، الذي تحمله مشاة جيش الفرنجة، وبدا كما لو أن المسلمون اقتربوا من النصر.
إلا أن شارل أرسل فرقًا يعتقد أنها كانت بقيادة أودو هاجمت معسكر المسلمين من الخلف، مما دفع المسلمين لمحاولة إنقاذ معسكرهم.
حاول الغافقي ومن بقي من جنوده معه الثبات في القتال والسيطرة على الموقف بعد أن اضطربت صفوف المسلمين، وظل يقاتل حتى قُتل.
اقرأ أيضا:
تعرف على أهم العقبات التي تعرض لها محمد الفاتح في فتح القسطنطينية.. وكيف تغلب عليها؟ثم نجح بقية جيش المسلمين في الدفاع عن معسكرهم حتى نهاية اليوم، وفي الليل، اجتمع قادة الجيش ورأوا أن ينسحبوا ليلاً بعد أن فقدوا قائدهم عبد الرحمن الغافقي.
وفي اليوم التالي، عندما وجد الفرنجة أن القتال لم يتجدد تخوفوا من أن يكون ذلك كمينًا، إلى أن استطلعت قواتهم مخيمات المسلمين التي تركوها وراءهم ووجدوها فارغة.
لم تتوقف فتوحات المسلمين في بلاد الغال رغم الهزيمة في المعركة، بل استمرت بعدها مباشرة، فأرسل الوالي الجديد عبد الملك بن قطن الفهري حملة يقودها يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي تحالف مع مورونتوس كونت بروفنس، غزت بلاد الغال واجتاحت آرل، ثم مدينة سانت ريمي وأفينيون.
ثم تابع الوالي عقبة بن الحجاج السلولي تلك الغزوات فسيطر على بورغونية، حتى بلغت حملته بيدمونت بشمال إيطاليا، لكن ثم انشغل ولاة الأندلس بمشاكلهم الداخلية وتكالبهم على السلطة، ففقدوا المناطق التي سيطروا عليها في بلاد الغال، الواحدة تلو الأخرى حتى لم يبق بأيديهم في عهد يوسف بن عبد الرحمن الفهري والي الأندلس الأخير سوى أربونة فقط، والتي سقطت نهائيًا عام 759 م، عندما أمر عبد الرحمن الداخل بإجلاء المسلمين من المدينة.
ومن ناحية أخرى، أنشأ شارلمان حفيد شارل مارتل بعد ذلك الثغر الإسباني في البرانس، لتكون بمثابة منطقة عازلة عن مناطق المسلمين خلف البرانس.
انقسمت الآراء التاريخية حول المعركة إلى ثلاث وجهات نظر. ففي الوقت الذي رأى فيه المؤرخون الغربيون كجيبون وجيله من المؤرخين الذين اعتمدوا على تأريخ عام 754 وتأريخ فريدغر، بأن شارل مارتل أنقذ المسيحية، وأن المعركة بلا شك كانت حاسمة في تاريخ العالم. إلا أن المؤرخين المعاصرين قد انقسموا حول ذلك، إلى معسكرين.
الأول يتفق مع جيبون، والآخر يقول بأن المعركة بُولغ فيها بشدة وتم تصويرها وكأنها نهاية عصر الغزو الإسلامي، بل وحتى المعسكر الأول الذي رأى أهمية المعركة التاريخية الكبيرة، اتخذ عدد منهم نهجًا أكثر اعتدالاً ودقة في وصف أهمية المعركة، بدلاً من الوصف الدراماتيكي الذي اتخذه جيبون.
أبرز هؤلاء هو ويليام واتسون، الذي آمن بأهمية المعركة تاريخيًا، لكنه حللها عسكريًا وثقافيًا وسياسيًا، بدلاً من أن ينظر إليها من منظور الصراع الكلاسيكي بين المسلمين والمسيحيين.
حاول المؤرخون المعاصرون تقدير أعداد الجيشين، اعتمادًا على تقدير ما العدد الذي تستوعبه أرض المعركة، وما العدد الذي يمكن لشارل مارتل أن يجمعه من مملكته ويضيف إليه خلال حملته، ومع تقدير أعداد قوات المسلمين، وما لحق بها من أعداد قبل تور، لتفوق بكثير أعداد الفرنجة.
وبالاستناد إلى مصادر إسلامية غير معاصرة للمعركة، قدّر كريسي قوات المسلمين بحوالي 80 ألف مقاتل أو أكثر. وقدّر المؤرخ بول ديفيس قوات المسلمين بحوالي 80 ألف مقاتل والفرنجة في حوالي 30 ألف مقاتل. وأشار إلى أن المؤرخين الحديثين قدروا قوات الجيش الأموي في تور ما بين 20 إلى 80 ألف مقاتل.
اقرأ أيضا:
الاحتلام والاستحلام.. ما الفرق بينهما؟ويعود تراجع المسلمين في موقعة بلاط الشهداء إلى عدة عوامل منها:
- مناخ الإقليم ووعورة مسالكه وجهل المسلمين بدروبه وشعابه.
- شدة مقاومة السكان المحليين، واستماتتهم في القتال.
- عدم وجود قواعد إسلامية في الإقليم تمد الجيش بالمساعدات في مثل هذه الظروف.
- تفرّق كلمة المسلمين وانقسامهم على أنفسهم، لأن العناصر التي كان يتشكّل منها الجيش الإسلامي، كانت غير منسجمة ولا سيما بعد أن استشهد عبد الرحمن الغافقي والذي كان على خلاف مع أحد القادة المغاربة وهو "مونوسة" الذي كان يتولى حكم الإقليم الشمالي لبلاد الأندلس.
وكان خلافهما حول المكان الذي تتجه إليه الحملة، فقد عارض مونوسة عبد الرحمن في غزو أقطانيا لأن صاحبها تربطه معاهدة مع المسلمين، بالإضافة إلى رابطة المصاهرة مع مونوسة، فغضب هذا الأخير وأدار أعنّة الخيل إلى عبد الرحمن الغافقي ودارت بينهما معركة، قتل فيها مونوسة.
فانسحب كثير من المغاربة من جيش عبد الرحمن لمقتل قائدهم، ودخل بعضهم المعركة ونفوسهم متغيرة، بالإضافة إلى التنافر المزمن بين اليمنية والقيسية فضلاً عن مغادرة الجند لمواقعهم لإنقاذ الغنائم الكثيرة التي داهمها الدوق أودو.
وكان عبد الرحمن يخشى على المسلمين من الغنائم الكثيرة التي كانوا يحملونها معهم أثناء تنقلهم، وأراد أن يأمرهم بتركها لئلا تكون عائقاً لهم، فتشغلهم عن الجهاد.
ولكنه لم يجرؤ على ذلك حتى لا يثير نفوسهم. وربما كانت هذه الأسباب كلها قد حالت دون انتصار المسلمين في هذه المعركة المصيرية.
ويشير المؤرخ الأندلسي المقرّي إلى تفرق كلمة المسلمين عامة والعرب على وجه الخصوص في الجيش بقوله: إن عساكر المسلمين احتلوا البسائط وراء دروب الجزيرة، وتوغلوا في بلاد الفرنجة، وعصفت روح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة، وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدو بعض الكره.
فالخلافات بين الجند فتحت الفرصة للعدو، فكانت الهزيمة ثقيلة، وكان لذلك صدى عميق الأثر في نفوس المسلمين عامة وأهل الأندلس والمغرب خاصة.