"وكان أبوهما صالحًا"، بصلاح الجد السابع حفظ الله لغلامين يتيمين كنزهما، وأرسل إليهما نبيًا (سيدنا موسى)، والخضر (العبد الصالح)، حتى يقوما بإعادة بناء الجدار، حتى يكبرا ويستخرجا كنزهما، فلا تستهين أبدًا بقوة الخير، فإنها أقوى من أي شيء يمكن أن تتصوره، حتى لو كان شيئًا بسيطًا، أو هكذا يبدو، لكنه عند الله شيئًا عظيمًا.
وهذا المثال يتجسد في والد الشيخ محمود خليل الحصري، أشهر مقرئ للقرآن الكريم في مصر، وشيخ مشايخ عموم المقارئ المصرية سابقًا، فقد كان والده "السيد" يشتغل بصناعة الحصير، وأطلق عليه لقب الحُصري، كان كلما وجد مصلى بلا حصيرة أو مفروشًا بقش الأرز هرع إليه وفرشه بالحصير الجديد، وكانت المصليات آنذاك تفرش بالحصير.
رؤيا عجيبة
في إحدى الليالي، وبينما كان نائمًا رأى رؤيا عجيبة، رأى عموده الفقري يتشكل ويتدلى عنقودًا من العنب، والناس تأتي جماعات جماعات يأكلون من عنقود العنب وعنقود العنب لا ينفد، ولما تكررت الرؤيا ذهب لأحد الشيوخ وقصها عليه، فسأله الشيخ، إن كان له ذرية قال: ولدي محمود عمره عامان، قال ألحقه بالأزهر يتعلم العلوم الشرعية فسوف يكون له شأن كبير وقد كان، وفعلاً ألحقه بالأزهر وختم القرآن في عمر الثامنة.
وأصبح "الحصري" أول من سجل المصحف المرتل في أنحاء العالم برواية حفص عن عاصم في عام 1961، وأول من سجل القرآن برواية ورش عن نافع في عام 1964، وأول من سجل القرآن برواية قالون ورواية الدورى عن أبي عمرو البصري في عام 1968، وأول من سجل القرآن المعلم (طريقة التعليم في عام 1969، وأول من رتل القرآن بطريقة المصحف المفسر في عام 1975، وأول من رتل القرآن في الأمم المتحدة في عام 1977، وأول من رتل القرآن في القصر الملكي في لندن في عام 1978، وأول قارئ يقرأ القرآن في البيت الأبيض، وقاعة الكونجرس الأمريكي، وقد توفي رحمه الله في ٢٤ نوفمبر سنة ١٩٨٠.
ونستطيع أن نقول بلا تردد، أن كل ما حققه الشيخ الراحل كان ببركة الخير الذي فعله والده في حياته، مدفوعًا بحب الخير، فرده الله أضعافًا مضاعفة، فإياك أن تستصغر العمل فإن الله يضاعف لمن يشاء.
كان مولد الحضري في غرة ذي الحجة سنة 1335 هـ الموافق 17 سبتمبر من عام 1917 في قرية شبرا النملة التابعة لطنطا بمحافظة الغربية بمصر، وكان والده قبل ولادته قد انتقل من محافظة الفيوم إلى هذه القرية التي ولد فيها.
وانتقل والده قبل ولادته من محافظة الفيوم إلى قرية شبرا النملة، حيث ولد الحصري، أدخله والده الكتاب في عمر الأربع سنوات ليحفظ القرآن وأتم الحفظ في الثامنة من عمره.
اقرأ أيضا:
هل القلوب تصدأ .. وما الفرق بين "الران" و" الطبع" على القلب؟حفظ القرآن في سن مبكر
كان يذهب من قريته إلى المسجد الأحمدى بطنطا يوميًا ليحفظ القرآن وفي الثانية عشر، انضم إلى المعهد الديني في طنطا، ثم تعلم القراءات العشر بعد ذلك في الأزهر.
وحصل على شهاداته في ذلك العلم (علم القراءات) ثم تفرغ لدراسة علوم القرآن لما كان لديه من صوت متميز وأداء حسن، كان يقرأ القرأن في مسجد قريته، وفي المناسبات العامة التي يحضر أهل القرية.
وفي عام 1944، تقدم إلى امتحان الإذاعة، وكان ترتيبه الأول على المتقدمين للامتحان، وكان أول بث مباشر على الهواء له في 16 نوفمبر 1944، واستمر البث الحصري له على أثير إذاعة القرآن المصرية لمدة عشرة سنوات.
في 17 إبريل 1949، تم انتدابه قارئًا في مسجد سيدي أحمد البدوي في طنطا(المسجدالأحمدي)، وفي عام 1955، انتقل إلى مسجد الإمام الحسين في القاهرة.
اقرأ أيضا:
من عجائب الكرم.. ماذا فعلت فتاة مع ضيفها عندما أطال النظر إليها؟أول من سجل المصحف المرتل
كان أول من سجل المصحف الصوتى المرتل برواية حفص عن عاصم، وهو أول من نادى بإنشاء نقابة لقراء القرآن الكريم، ترعى مصالحهم وتضمن لهم سبل العيش الكريم، ونادى بضرورة إنشاء مكاتب لتحفيظ القرآن في جميع المدن والقرى، وقام هو بتشييد مسجد ومكتب للتحفيظ بالقاهرة.
أدرك الشيخ الحصري منذ وقت مبكر أهمية تجويد القرآن في فهم القرآن وتوصيل رسالته، فالقراءة عنده علم وأصول؛ فهو يرى أن ترتيل القرآن يجسد المفردات القرآنية تجسيدًا حيًا، ومن ثَمَّ يجسد مدلولها التي ترمي إليها تلك المفردات...كما أن ترتيل القرآن يضع القارئ في مواجهة عقلانية مع النص القرآني، تُشعر القارئ له بالمسؤولية الملقاة على عاتقه.
تزوج عام 1938، وكانت معظم مسؤوليات التربية تقع على كاهل زوجته بسبب انشغاله بعمله وأسفاره، ومما يرويه أحد أبنائه: "كان يعطي كل من حفظ سطرًا قرش صاغ بجانب مصروفه اليومي، وإذا أراد زيادة يسأل ماذا تحفظ من القرآن، فإن حفظ وتأكد هو من ذلك أعطاه، وقد كانت له فلسفة في ذلك فهو يؤكد دائمًا على حفظ القرآن الكريم حتى نحظى برضا الله علينا ثم رضاء الوالدين فنكافأ بزيادة في المصروف، وكانت النتيجة أن التزم كل أبنائه بالحفظ، وأذكر أنه في عام 1960 كان يعطينا عن كل سطر نحفظه خمسة عشر قرشًا وعشرة جنيهات عن كل جزء من القرآن نحفظه وكان يتابع ذلك كثيرًا، إلى أن حفظ كل أبنائه ذكورًا وإناثًا القرآن الكريم كاملاً والحمد لله".
جمعية الحصري
والسيدة "أفراج الحصري" تواصل الآن السير على درب أبيها، حيث ترأس مجلس إدارة جمعية الشيخ الحصرى للخدمات الدينية والاجتماعية العامة، والتي تنشط في مجال التنمية الإنسانية ورعاية الأيتام وإطلاق القوافل والمساعدات الإنسانية، فضلاً عن تحفيظ القرآن.
كان صاحب مدرسة في تلاوة القرآن أهم ما يميزها دقة التلاوة، والاعتناء بأصولها، وهي مدرسة لا ينافسه فيها أحد، كان صوته الشجي وحسن تلاوته، سببًا في اعتناق بعض الأجانب الإسلام، ففي عام 1965، قام بزيارة فرنسا وأتيحت له الفرصة إلى هداية عشرة فرنسيين لدين الإسلام بعد أن سمعوا كلمات الله أثناء تلاوته للقرآن الكريم.
وفي عام 1970، سافر إلى الولايات المتحدة لأول مرة موفدًا من وزارة الأوقاف للجاليات الإسلامية بأمريكا الشمالية والجنوبية، وبعدها بثلاث سنوات، قام بزيارة ثانية لأمريكا، لقن خلالها الشهادة لثمانية عشر رجلاً وامرأة أمريكيين أشهروا إسلامهم على يديه بعد سماعهم لتلاوته القرآن الكريم.
أبرز مؤلفاته:
"أحكام قراءة القرآن الكريم"، "القراءات العشر من الشاطبية والدرة"، "معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء"، "الفتح الكبير في الاستعاذة والتكبير"، "أحسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر"، "مع القرآن الكريم"، "قراءة ورش عن نافع المدني"، "قراءة الدوري عن أبى عمرو البصري"، "نور القلوب في قراءة الإمام يعقوب"، "السبيل الميسر في قراءة الإمام أبى جعفر"، "حسن المسرة في الجمع بين الشاطبية والدرة"، "النهج الجديد في علم التجويد"، "رحلاتى في الإسلام".
كان حريصًا في أواخر أيامه على تشييد مسجد ومعهد دينى ومدرسة تحفيظ بمسقط رأسه قرية شبرا النملة. أوصى في خاتمة حياته بثلث أمواله لخدمة القرآن الكريم وحُفَّاظه، والإنفاق في كافة وجوه البر. توفى مساء يوم الإثنين 16 محرم سنة 1401 هـ الموافق 24 نوفمبر 1980 بعد صلاة العشاء بعد أن امتدت رحلته مع كتاب الله الكريم إلى ما يقرب من خمسة وخمسين عامًا.