لما بلغ سيدنا عيسى المسيح عليه السلام الثلاثين من عمره، أوحى الله تعالى إليه أن يدعو الناس إلى عبادة الله عز وجل، فخرج يجوب البلاد، ويجول في القرى، يدعو إلى الإسلام قائلا للناس: "أن اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا وآمنوا بأني رسول الله إليكم"، فآمن به أول من آمن اثنا عشر شخصا يسمون "الحواريين".
وكان من معجزاته عليه السلام أنه كان يبرئ الأكمه الذي يولد أعمى، والأبرص بإذن الله.
والبرص مرض يصيب الجلد ويكون على شكل بياض يغطي مساحات من الجسم، فينفر الناس من صاحبه
، وخص هذان المرضان بالذكر لأنهما داءان معضلان، وكان الغالب على زمن سيدنا عيسى الطب، فأراهم الله المعجزة على يدي سيدنا عيسى من جنسِ ذلك، وكان يحيي الموتى بإذن الله، حتى قيل إنه أحيا أربعة من الخلق بمشيئة الله وقدرته.
كان سيدنا حِـزْقِـيلٌ قبل سيدنا عيسى أحيا ثمانية، وهو نبي من أنبياء الله من بني إسرائيل، كما أن سيدنا عيسى من بني إسرائيل، ومن الذين أحياهم سيدنا عيسى عليه السلام بإذن الله أحد أصدقائه، واسمه عازر، إذ لما مرض أرسلت أخته إلى سيدنا عيسى عليه السلام أن عازر يموت، فسار إليه وبينهما ثلاثة أيام، فوصل إليه فوجده قد مات، فأتى قبره فدعا الله عز وجل وقال: قم بإذن الله، فقام عازر بإذن الله، وعاش وولد له ولد.
ومن الذين أحيوا بإذن الله على يدي سيدنا عيسى المسيح ابن العجوز، فإنه مر به محمولا على سريره فدعا له سيدنا عيسى عليه السلام أن يقوم بإذن الله، فقام ونزل عن أكتاف الرجال، ولبس ثيابه ثم حمل سريره و رجع إلى أهله.
وكذلك فعل مع أحد الملوك إذ كان محمولا، وجرى معه ما جرى مع ابن العجوز، لكن الكفرة الحسدة لما رأوا ذلك قالوا تعنتًا: إنك تحيي من كان موته قريب، فلعلهم لم يموتوا بل أصيبوا بإغماء أو سكتة، فأحيي لنا سام بن نوح، وكان لسيدنا نوح عليه السلام أربعة أبناء، ثلاثة أسلموا ونجوا معه في السفينة سام وحام ويافث، أما الابن الرابع كنعان فقد أبى أن يؤمن ولم يصعد السفينة مع والده وإخوته فمات غرقًا.
فقال سيدنا عيسى عليه السلام: "دلوني على قبره".
فخرج سيدنا عيسى وخرج القوم معه، حتى انتهوا إلى قبره، فدعا الله فخرج سام
، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة.
التفت سام وقال للناس مشيرًا إلى سيدنا عيسى المسيح: "صدقوه، فإنه نبي" ثم عاد إلى حاله، فآمن به بعضهم وكذبه البعض الآخر، وقالوا: هذا سحر.
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه كان ينبئ قومه بما يأكلونه، ويدخرونه في بيوتهم، وذلك أنه لما أحيا الموتى بإذن الله، طلبوا منه آية أخرى، وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد، فأخبرهم، فقال: "يا فلان، أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا".
ويروى أن عيسى بن مريم عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ..كان بصحبته رجل من اليهود وكان عهما ثلاثة أرغفة من الخبز.. ولما أرادا أن يتناولا طعامهما وجد عيسى أنهما رغيفان فقط، فسأل اليهودي: - أين الرغيف الثالث، فأجاب:- والله ما كانا إلا اثنين فقط. لم يعلق نبي الله وسارا معاً حتى أتيا رجلاً أعمى فوضع عيسى عليه السلام يده على عينيه ودعا الله له فشفاه الله عز وجل ورد عليه بصرَه، فقال اليهودي متعجباً:- سبحان الله! وهنا سأل عيسى صاحبه اليهودي مرة أخرى:- بحق من شافا هذا الأعمى ورد عليه بصره.. أين الرغيف الثالث، فرد:- والله ما كانا إلا اثنين.
سارا ولم يعلق سيدنا عيسى على الموضوع حتى أتيا نهرا كبيرا، فقال اليهودي:- كيف سنعبره؟ فقال له النبي:- قل باسم الله واتبعني، فسارا على الماء، فقال اليهودي متعجبا: سبحان الله!
وهنا سأل عيسى صاحبه اليهودي مرة ثالثة :- بحق من سيرنا على الماء أين الرغيف الثالث؟ فأجاب:- والله ما كانا إلا اثنين.
لم يعلق سيدنا عيسى وعندما وصلا الضفة الأخرى.. جمع عليه السلام ثلاثة أكوام من التراب
ثم دعا الله أن يحولها ذهباً، فتحولت إلى ذهب، فقال اليهودي متعجبا:- سبحان الله لمن هذه الأكوام من الذهب؟!
فقال عليه السلام:- الأول لك، والثاني لي ، وسكت قليلا ، فقال اليهودي:-
والثالث ؟؟؟ فقال عليه السلام:- الثالث لمن أكل الرغيف الثالث ! ، فرد بسرعة:- أنا الذي أكلته !!! فقال سيدنا عيسى :- هي كلها لك ، ومضى تاركاً اليهودي غارقاً في لذة حب المال والدنيا.
وبعد أن جلس اليهودي منهمكا بالذهب لم يلبث إلا قليلا حتى جاءه ثلاثةُ فرسان، فلما رأوا الذهب ترجلوا، وقاموا بقتله شر .. وبعد أن حصل كل واحد منهم على كومة من الذهب .. بدأ الشيطان يلعب برؤوسهم جميعا ، فدنا أحدهم من أحد صاحبيه قائلا له:- لم لا نأخذ أنا وأنت الأكوام الثلاثة ونزيد نصف كومة إضافية بدلا من توزيعها على ثلاثة، فقال له صاحبه:- فكرة رائعة.. فنادوا الثالث وقالوا له :- هل يمكنك أن تشتري لنا طعاما لنتغذى قبل أن ننطلق.. فوافق هذا الثالث ومضى لشراء الطعام، وفي الطريق حدثته نفسه فقالت له:- لم لا تتخلص منهما وتظفر بالمال كله وحدك؟؟؟ إنها حقا فكرة ممتازة !!!
فقام صاحبُنا بوضع السم في الطعام ليحصل على المال كله.. وهو لا يعلم كيد صاحبيه له، وعندما رجع استقبلاه بطعنات في جسده حتى مات، ثم أكلا الطعام المسموم فما لبثا أن لحقا بصاحبيهما وماتا وماتوا جميعاً.. وعندما رجع نبي الله عيسى عليه السلام وجد أربعة جثث ملقاة على الأرض ووجد الذهب وحده، فقال:- هكذا تفعل الدنيا بأهلها فأعبروها ولا تعمروها.
نزول سيدنا عيسى وموته.. كيف ومتى وأين سيدفن؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، لا يقبلها من كافر، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها) [رواه البخاري].
جاء في التصريح بنزوله سيدنا عيسى عليه السلام، أحاديث متواترة، ومنها حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، الذي يشير إلى نزول المسيح عليه السلام، ففيه قال: (ثم يدعو (أي الدجال) رجلاً ممتلئًا شباًبا، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين، رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل، ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد، فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قومًا قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم : إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور.
ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار، فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى، كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، ثم يرسل الله مطرًا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ كل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك، إذ بعث الله ريحا طيبا، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن ومسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة" [رواه مسلم].
ومن تلك الأحاديث ما وما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة"، قال: "فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله لهذه الأمة" [رواه مسلم].
ويقول الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق إن مكان نزول سيدنا عيسى عليه السلام على منارة شرق دمشق ورجح ابن كثير أنها منارة الجامع الأموي -كما مر- وسوف يشهد زمان بقاء سيدنا عيسى عليه السلام على الأرض أحداث عظام، منها قتل الدجال، وقتال اليهود وهلاكهم، وهلاك يأجوج ومأجوج.
ويخرج الدجال بعد ظهور المهدي، وقبل نزول سيدنا عيسى عليه السلام، ويفتن الناس، ثم يبعث الله سيدنا عيسى عليه السلام، فينزل على منارة بيضاء شرق دمشق، في وقت صلاة الصبح، فيصلي مع المسلمين خلف المهدي –كما مر- ثم يحارب الدجال ويقتله، ويقاتل المسلمون اليهود وهم أتباع الدجال يومئذ، فيهرب اليهود خلف الأحجار والأشجار، فيخبر عنهم كل شيء إلا نوع من الشجر يسمى الغرقد.
وقد دل على تلك الأحداث أحاديث كثيرة، منها ما في حديث أبي أمامة الطويل الذي يصف الدجال : "فقالت أم شريك بنت أبي العكر يا رسول الله فأين العرب يومئذ ؟ قال هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له : تقدم فصل، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحون ووراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هاربا، فيقول عيسى عليه السلام : إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب لد الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل ليتوارى به يهودي إلا أنطق ذلك الشيء، لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم لا تنطق، إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله" [رواه ابن ماجه في سننه].
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون" [رواه ابن حبان، وأصله في البخاري ومسلم].
اقرأ أيضا:
هل يرد جميع الخلق "المؤمن والكافر" على النار يوم القيامة؟ (الشعراوي يجيب)عيسى مازال حيًا
ويشير الدكتور علي جمعة إلى أن الأحاديث النبوية دلت جميعها بأن عيسى عليه السلام لا يزال حيًّا وأنه لم يمت، وأنه باقٍ في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا حتى ينزل إلى الأرض في آخر الزمان.
وأما ما أشارت إليه آية آل عمران وآية المائدة من الوفاة قبل رفعه، فالمراد به عند جمهور المفسرين هو: وفاة نوم، أي أن الله تعالى ألقى عليه النوم قبل رفعه إلى السماء.
قال ابن كثير في تفسيره: وقال الأكثرون المراد بالوفاة هاهنا النوم؛ كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام:60]، وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42]. انتهى.
وقال القرطبي في تفسيره عن قوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة:117] قال: قيل هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه قبل أن يرفعه، وليس بشيء؛ لأن الأخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي، وأنه ينزل ويقتل الدجال، وإنما المعنى: فلما رفعتني إلى السماء.
موت سيدنا عيسى
ولن يموت سيدنا عيسى عليه السلام إلا بين المسلمين، ويدفنه المسلمون في روضة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث بقي موضع قبر، فقد روى الترمذي عن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال : (مكتوب في التوراة صفة محمد وصفة عيسى بن مريم يدفن معه، قال : فقال أبو مودود : وقد بقي في البيت موضع قبر).
وموته عليه السلام بداية فساد الأرض، وقبض المسلمين، حتى تأتي باقي علامات الساعة على أشرار الناس.