ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية، يقول: "ما حكم الامتناع عن دفع مؤخر الصداق لإخفاء أهل الزوجة مرضها النفسي؟ فقد تزوجت قريبة لي، ولم يكن لدي أي معرفة سابقة بها، ولم يُسبق زواجنا بخطوبة لظروف سفري، وبعد أيام قليلة من زواجي اكتشفت أنها مريضة بمرض نفسي يصعب معه استمرار الحياة الزوجية بيننا، ورغم ذلك حاولت أن أكون لها مُعينًا وأن أكمل حياتي معها، وبالفعل صبرت كثيرًا على ظروف مرضها، ثم إنني الآن أعاني من الحياة معها وأرغب في تطليقها، فهل يجب عليّ أن ادفع لها جميع مؤخر صداقها، أو يحقّ لي الانتقاص منه أو الامتناع عنه بسبب مرضها وعدم إخباري به قبل الزواج؟".
وأجاب الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية بأنه لا يجوز للزوج الامتناع أو الانتقاص من دفع مؤخر صداق زوجته بسبب مرضها؛ ما دام قد خلا واستأنس بها واحتبست في بيته، ولو لم يكن مستوفيًا مع ذلك سائر الحقوق الزوجية.
إذ اعتبر أن "المهر في الأصل لتعظيم العقد وتكريم المرأة، وهو دَينٌ في ذمة الزوج لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء، ويُستحق كله بالدخول أو الخلوة الصحيحة، ونصفه بالعقد فقط، ويجب بأقرب الأجلين الطلاق أو الوفاة، ويستوي في وجوب استحقاقها المهر ما إذا كان مرضها سابقًا على الزواج ولم يعلم به الزوج ما دام قد خلا بها، أو كان حاصلًا بعد الزواج منها، وعلى ذلك تواردت النصوص".
واستشهد المفتي بما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا" أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، وابن أبي شيبة في "المصنف"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
قال القاضي أبو يوسف في "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" (ص: 212، ط. لجنة إحياء المعارف النعمانية): [إذا خلا الرجل بامرأته وهي حائض أو وهي مريضة، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: لها نصف المهر وبه نأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: لها المهر كاملًا] اهـ.
وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (2/ 291، ط. دار الكتب العلمية): [(وأما) بيان ما يتأكد به المهر: فالمهر يتأكد بأحد معان ثلاثة: الدخول والخلوة الصحيحة وموت أحد الزوجين، سواء كان مسمى أو مهرَ المثل حتى لا يسقط شيء منه بعد ذلك إلا بالإبراء من صاحب الحق، أما التأكد بالدخول فمتفق عليه، والوجه فيه أن المهر قد وجب بالعقد وصار دَينًا في ذمته، والدخول لا يسقطه؛ لأنه استيفاء المعقود عليه، واستيفاء المعقود عليه يقرر البدل لا أن يسقطه كما في الإجارة؛ ولأن المهر يتأكد بتسليم المبدل من غير استيفائه لما نذكر فلأن يتأكد بالتسليم مع الاستيفاء أولى] اهـ.
اقرأ أيضا:
يكتب بيت الزوجية باسم زوجته .. ويجبرها على التنازل عن مؤخر الصداق.. فما الحكموقال أيضًا في (2/ 295): [وإذا تأكد المهر بأحد المعاني التي ذكرناها لا يسقط بعد ذلك، وإن كانت الفرقة من قِبلها؛ لأن البدل بعد تأكده لا يحتمل السقوط إلا بالإبراء كالثمن إذا تأكد بقبض المبيع] اهـ.
وقال العلامة النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" (2/ 30، ط. دار الفكر): [قال خليل: (وللمريضة بالدخول المسمى)؛ يقضى لها به من رأس ماله قل أو كثر، لقول خليل: وتقرر بالوطء] اهـ.
ونبه المفتي إلى أنّ أولى الناس برعاية المرأة المريضة هو زوجها الذي أوجب الله عليه رعايتها والإحسان إليها، ومن أوليات الرعاية والإحسان المساندة في وقت الضعف والمرض.
وأضاف: "فإذا فعل الزوج ذلك كان له الثواب الجزيل من الله تعالى؛ أما إذا لم يستطع القيام بذلك واختار الطلاق والفرقة؛ فلا يجوز شرعًا له الامتناع عن دفع مؤخر صداقها بسبب مرضها ولا الانتقاص منه، وسواء في ذلك إذا سبق هذا المرضُ الزواجَ أو لا، أو أُخفي عنه أو لا؛ إذ المهر إنما جعل لتكريم المرأة وتعظيم العقد، لا لمجرد استيفاء الحقوق".
واعتبر المفتي أن ما قام به الزوج من صبر على مرض زوجته هو من الأفعال الحسنة التي يثاب عليها جزيل الثواب إن شاء الله،.
بيد أنه استدرك قائلاً: "فإذا ضاق وسعك ولم تستطع الاستمرار في الزوجية بعد بذل الجهد في ذلك؛ فيُباح لك أن تطلقها بحسب ما تراه محققًا لمصلحتك مع إيفائها حينئذٍ جميع حقوقها الشرعية كاملة، ولا يُباح لك الانتقاص من مهرها أو منعها منه بسبب إخفاء كونها تعاني مرضًا نفسيًّا؛ لأن المهر يستحق كاملًا بالدخول، ويحلّ المؤجل منه بالطلاق أو الوفاة، ولا يسقط إذا وجب إلا بالأداء أو الإبراء".