ما أجمله من خلق حين يهتم المرء بأحوال الناس، لا يترك حزينًا يتألم إلا واساه، وأدخل السرور على قلبه، فإن للكلمة الطيبة مفعولاً قويًا في النفوس، إذ لا يسر إنسان أكثر من أن يسمع كلمة تجبر بخاطره وتذهب عنه أحزانه، أو يسعى أحد في قضاء حاجة له، أو مريضًا يتألم فيجد من يخفف عنه بكلمة أو دعوة.
ذلك هو ما يسمى بعبادة "جبر الخواطر"، فإياكم وكسر الخواطر، فإنها ليست عظامًاً تُجبر، بل هي أرواح تُقهر، وسفيان الثوري رحمه الله يقول: "ما رأيت عبادة أجل وأعظم من جبر الخواطر".
فإذا كان كسر العظام أمرًا مؤلمًا للغاية، فإن ألمه لا يقارن أبدًا بآلام كسر الخاطر، لأن أكثر ما يؤلم الإنسان أن يكسر أحد بخاطره، لأنه يترك بداخله جرحًا غائرًا يصعب التئامه، ويكسر فؤاده فيدعه يتألم طويلاً، وقد ترك بداخله شرخًا يحتاج إلى وقت طويل للالتئام.
وكم من ضعيف كسر قوي بخاطره، استغلالًا لحاجته أو ضعفه، دون مراعاة لمشاعره، فإياك أن تستهن بالكلمة وأنت تقذف بها أحدًا، إنها أشد قسوة من الحجارة، من طلب مشورتك لا تتأخر عنه، ولا تبخل عليه بالنصح، أو بخبرتك، لا تهمله، استمع له جيدًا، ساعده بقدر ما تملك، فلو لم يكن يثق فيك لما كان قد تحدث إليك من الأساس.
علاج لقسوة القلب
وليس هناك من علاج ناجع لقسوة القلب أفضل من جبر الخواطر، فإنه يلينها، ويجعلها أكثر رقة في التعامل، لأنها تجعله يشعر بمن حوله، يبادر إليهم بالمساعدة، ويمد لهم يد العون، خاصة في زمن أصبح فيه الناس مشغولين عن بعضهم، حتى عن أقرب الناس إليهم.
فظروف الحياة، ربما كانت قاسية على البعض، ومثل هؤلاء يحتاجون إلى تطييب خواطرهم، كما أن أصحاب الابتلاءات هم أشد حاجة إلى من يسمعهم ما يدعوهم إلى التفاؤل، لا أن يفاقم معاناتهم، ويزيدهم ألمًا على آلامهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو النموذج والقدوة لنا في جبر خواطر، فقد كان لا يترك أحدًا من أصحابه حزينًا إلا خفف عنه، ولا يدع أحدًا أصابه هم إلا وقف إلى جواره مساندًا إياه بالكلمة الطيبة.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لي:"يا جابر: مالي أراك منكسرًا؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي قتل يوم أحد, وترك عيالاً ودينًا, قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟، قلت: بلى يا رسول الله, قال: ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب, وأحيا أباك فكلمه كفاحًا, فقال: يا عبدي تمنَّ عليَّ أعطك؟ قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية, قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يُرجعون".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوي عزائم أصحابه، ويرفع الهمة في قلوبهم، كان يبث الأمل في نفوسهم، ويشحذ همم، ومن ذلك أنه دخل ذات يوم المسجد؛ فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة رضي الله عنه, فقال: يا أبا أمامة مالي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟, قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله, قال: أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟، قلت: بلى يا رسول الله قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, وأعوذ بك من العجز والكسل, وأعوذ بك من الجبن والبخل, وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال, قال: ففعلت ذلك, فأذهب الله عز وجل همي, وقضى عني دَيني.
وقد كان صلى الله عليه وسلم بسيطًا، يتعامل من هذا المنطلق مع كل الناس، يدب فيهم روح الفأل ويذهب عنهم اليأس، حتى إنه كان ليمازحهم، ومن ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه، أن "رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان دميمًا، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني من هذا؟ فالتفت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مَن يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدني كاسدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكن عند الله لست بكاسد، أنت غال".
كان عليه الصلاة والسلام يطيب نفوس المهمومين والمظلومين، ومن ذلك لما قال المنافق عبد الله بن أُبي لأصحابه: "لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ"، وسمعه زيد ابن أرقم رضي الله عنه فأخبر عمه؛ فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسل لابن أُبي؛ فحلف وجحد, قال زيد رضي الله عنه: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذَّبني، فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد، فينما أنا أسير، قد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعرك أذني وضحك في وجهي؛ فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا".
اقرأ أيضا:
كيف تستعد ارمضان من الآن؟.. تعرف على أهم الطرق والوسائلعتاب الله لنبيه
وقد عاتب الله تعالى، نبيه صلى الله عليه وسلم، لأنه أعرض عن عبدالله بن مكتوم وكان أعمى، لما جاءه يستفيد، يسأل، يا رسول الله: علمني مما علمك الله، وكان النبي –عليه الصلاة والسلام- منشغلاً بدعوة بعض صناديد قريش، فأعرض عنه، فأنزل الله: عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى"، قال "القرطبي" في التفسير: "فعاتبه الله على ذلك؛ لكي لا تنكسر قلوب أهل الإيمان".
وعندما جاءته زوجة عكرمة بن أبي جهل، تطلب له الأمان بعد أن فر خوفًا من النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، فقال لها: "برب هو آمن"، ولما رجع عكرمة وأسلم وحسن إسلامه، قال صلى الله عليه وسلم لصحابته: "يأتيكم عكرمة لا تعيروه بأبيه، فإن ذلك يؤذي الميت ولا ينفع الحي"، وكان ذلك جبرًا لخاطره.
كذلك عندما جاء عدي بن حاتم إلى المدينة، ليقيس الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان ملكًا أم نبيًا، فدخل على النبي عليه الصلاة والسلام واستقبله، وفي طريقهما من المسجد إلى حجرته جاءت جارية من جواري المدينة فترك النبي يد عدي، وبدأ يتكلم مع البنية الصغيرة، فوقف عدي قائلاً: والله هذا ليس بفعل ملك والله هذا فعل نبي، ثم عندما دخل مع النبي ووجد عنده فراشًا واحدًا، وبدأ النبي يدعوه قال والله لا يفعل هذا إلا نبي، فأسلم عدي رضي الله عنه وأرضاه وحسن إسلامه.
وفي يوم من الأيام زار رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه أنس بن مالك في بيته، فرأى طفلاً صغيرًا جالسًا على الأرض، وفي حضنه عصفور صغير مريض، والطفل تنهمر دموعه حزناً على عصفوره، فجاء الرسول إليه وحضنه وقال له، "يا أبا عمير ماذا فعل النُغير؟"، والنُغير هو العصفور الصغير، فتبسم الطفل الصغير.
وبعد أيام جاء الرسول إلى بيت أبي عمير وطرق الباب، فتح أنس بن مالك الباب، فدخل الرسول البيت وتوجه مباشرة إلى أبي عمير الطفل الصغير وسأله بحنان: "يا أبا عمير ما فعل النُغير؟"، فرمى أبو عمير بنفسه في حضن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ويقول: "لقد مات النُغير.. لقد مات".