ضرب نبي الله إبراهيم، المثل في البحث عن الحقيقة، حينما أكد لنفسه وللأنبياء من بعده، وللأمم اللاحقة عليه أجمعين، أن الحق غال ولا يباع على الأرصفة، وأن من يبحث عن الحق والحقيقة عليه أن يدفع ثمنه كما هو مقدر له دون أن يبخس منه شيئا، حتى يعرف قيمة هذا الحق ويقدره حق قدره، ويحافظ عليه، فحينما يكون الحق رخيصًا يذهب سريعًا ورخيصًا أيًضا، وحينما يكون الحق غاليًا ويكون ثمنه الدم والأنفس والجهاد من أجله، يكون المقابل هو الحفاظ عليه غاليًا كما هو.
الحق غال
البحث عن الحقيقة أمر صاحب الإنسان منذ أن خلقه الله تعالى، وقد بحث إبراهيم عليه السلام عن حقيقة الخالق الذي يستحق العبادة، ففند كل المعبودات التي يعبدها قومه فوجدها لا تنفع ولا تضر، فأبى أن يقلد قومه بهتانا وظلما لنفسه، فبحث عن الخالق الذي يستحق عبادته فنظر للشمس وقال هذا ربي فلما أفلت رفض عبادتها، ونظر للقمر بازغا وقال هذا ربي فلما أفل رفض عبادته، وفي النهاية أوكل أمره لله الذي خلقه بأن توجه إليه بالدعاء حتى يهديه إليه ولا يكون من الظالمين.
قال تعالى في سورة الأنعام: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰكَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81)".
وقد تطلع موسى عليه السلام إلى أن يرى الله حقيقةً وذلك بعد أن آمن بحقيقته وذاته: ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ﴾ [الأعراف: 143]،وذات الله حقيقة، ولكنها لا تدرك مباشرة: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]، وعدم إدراك ذات الله سبحانه وتعالى مباشرة لا يعني عدم إدراكه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب لغار حراء باحثا عن الحقيقة، وعابدا لله عز وجل، بعد أبى أن يعبد الأصنام التي كانت منتشرة في الجاهلية، فقد جاهد النبي صلى الله عليه وسلم في طلب هذا، حتى هداه الله عز وجل ونزل عليه الوحي الأمين ليبلغه رسالة ربه.
العقل والفطرة السليمة معيار الحقيقة
خلق الله عز وجل العقل ليميز به الإنسان في رحلة البحث عن الحقيقة على غيره من المخلوقات، وخلق الله الفطرة السليمة لهذا الإنسان الذي يتحرى الصدق والحق، فقد خلق الله عز وجل الإنسان في أحسن تقويم، وميزه عن سائر المخلوقات بالعقل، ليدرك به الحقائق، ويميز به الأمور، ويكفي للدلالة على أهمية العقل، واستخدامه، ما ورد في القرآن الكريم من آيات تمدح العقل والتعقل، والنظر والتدبر، وتذم الذين لا يعقلون.
إلا أن الجهل والهوى والشهوة، قد يتسلطوا جميعا على حركة العقل في البحث عن الحقيقة، لذلك دل الله الإنسان على طريق الاستقامة، والتحلل من الهوى والشهوات، لكي تستقيم رحلته في البحث عن الحق والحقيقة، وذلك بالنظر والتفكر في النفس والكون والآفاق.
ولكي تصل إلى الحق هناك عدد من الوسائل العلمية التي تؤدي بك إليه، وهي:
أولا . تحرير العقل من الهوى والشهوة:
لأن الهوى إذا كان هو الحاكم استغلق العقل، وسدت منافذ التفكير، فلا قيمة بعد ذلك للآيات البينات، والدلالات الواضحات، لأن الهوى يرد ذلك كله ويعرض عنه، فيصبح المرء أسيرا لسلطان الهوى، فتختلط بين يديه الدروب والمسالك، وتظلم في طريقه سبل الحق والهداية، وصدق أحمد شوقي حين قال :
إذا رأيت الهوى في أمة حكما فاحكم هنالك إن العقل قد ذهبا[2].
وفي القرآن الكريم تقريرات كثيرة لهذه الحقيقة منها قوله تعالى : (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق)[4].
ثانيا. تحرير العقل من توجيهات الطغاة والكهان
وذلك بالنظر إلى العلم الصحيح الذي جاء به الوحي لا إلى التوجيهات والخطابات التي يتزعمها الطغاة والكهان .
قال تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس)[8]. وقال: (إن يتبعون إلا الظن ، وإن الظن لا يغن من الحق شيئا).
ثالثا: وجوب الرجوع إلى القرآن الكريم كله لمعرفة حقيقة قرآنية واحدة .
رابعا: إفراد الله عز وجل بالألوهية، والربوبية يوجب إفراد الوحي مصدرا للعقيدة والشريعة.
خامسا: التجربة
المقصود هنا بالتجربة التي تجمع بين الحس والعقل، لأن الحس هو مبدأ المعرفة، ومنه يتدرج الإنسان إلى المعرفة العقلية التي توصل إلى وجود سبحانه وتعالى، ثم الإيمان به.
“والعقل يسند في أحكامه إلى معطيات الحس التي تأتيه رسله، كالسمع والبصر وغيرهما من الحواس، ثم استنباط القواعد واستخراج النتائج، واستصدار الأحكام، وهو في كل هذا العمل إنما يعتمد على معطيات حسية، لها وجود مشهود، ولو تعدى هذا المجال لنطق بغير علم، وحكم من غير هدى.
اقرأ أيضا:
أدرك عمرك قبل فوات الأوان بهذه الطاعات