يتفاخر الشباب بشبابهم، ومع أن هذا الشباب لا يدوم بفعل الزمن، إذ أنه بعد فترة سنوات معدودة يصل الشاب لمرحلة الشيب، ويبدأ مرحلة جديدة، بأفكار مختلفة، وطريقة مختلفة في عرض الأمور ومناقشتها والتعاطي معها، لكن هل من الممكن أن (يشيب) الشاب وهو في شبابه.. نعم.. فهناك بعض الكلمات التي إن سمعها الشاب بقلبه، لاشك سيشيب عمره في لحظة، كأنه ينتظر القبر، أو يرى يوم موته باديًا أمام عينيه.

وما ذلك إلا لأن بعض آيات القرآن الكريم تحمل بعضًا من أهوال يوم القيامة، وهي أهوال لا يشيب لها الشباب لها فحسب، وإنما الجنين في بطن أمه، فقد نقل الإمام الترمذي رحمه الله، عن عكرِمة عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهم أجمعين، قال : قال أبو بكر رضي الله عنه: «يَا رَسُولَ الله قَدْ شِبْتَ. قالَ: شَيّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالمُرْسَلاَتُ و (عَمّ يَتَسَاءَلُونَ) و (إِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ)».

الشيب الحقيقي

الشيب هنا مجاز، لكن المؤكد أيضًا، أن تضمين هذه السور العديد من أهوال يوم القيامة، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيب منها، وهو من هو، الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خير الآنام، وهو أول الداخلين إلى الجنة، فكيف بنا نحن؟.

وروى الإمام القرطبي رحمه الله، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: (شيبتني هود). فقال: (نعم) فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: (لا ولكن قوله: فاستقم كما أمرت)، فإنه مما لاشك فيه إذا أتت أهوال يوم القيامة والعذاب والهموم والأحزان على الإنسان أسرع إليه الشيب في غير أوان.

اقرأ أيضا:

من دلائل الإعجاز القرآني.. ماذا سيحدث للسفن إن سكنت الريح؟ (الشعراوي يجيب)

الأمر بالاستقامة

إذن الاستقامة، أو الطلب الإلهي بالاستقامة، شيبت خير البشر على الإطلاق، فكيف بنا حين يطلب منا الاستقامة لا نستقيم، بل وأحيانًا ما تأخذنا العزة بالإثم، فنرد على من يأمرنا بالاستقامة برد موجع، ونرفض النصيحة.

يروى أن الذي شيب النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، في سورة "هود"، قوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، وفي ذلك قال ابن عباس، رضي الله عنهما: «مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في جميع القرآن، آية أَشَدُّ، وَلا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ»، لذلك فقد فسر الإمام ابن القيم ذلك في "مدارج السالكين"، فقال: «الذي شيبه، صلى الله عليه وسلم، من "هود"، هذه الآية: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ"؛ لأن الاستقامة لا تكون عن هوى، وإنما على حسب ما أُمرت، ولا يستطيع الإنسان أن يستقيم كما أُمر، إلا بعد أن يعلم بماذا أُمر، ثم بعد ذلك يستقيم عليه».