ينزل البلاء على قلوب العباد فمنهم من يصبر ومنهم من يجزع والصبر ليس كل الناس يتحلى به والصبر درجات فمنهم من يصبر على أول البلاء ويتصبر ويحتسب عند حلول مصيبة له وهو أعلى المنازل: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".. ومنهم من يحزن بقلبه ولا يتسخط على مقدور الله تعالى وهكذا فجزاء الصابرين يختلف بحسب حال . ومن ينظر في حال من فقد عزيزًا أمًّا أو أبًا يدرك كم الحزن والبلاء الذي يحيط به .. وبهذا كان الموت مصيبة قال تعالى: "فأصابتكم مصيبة الموت" وذلا فالصبر على هذا له ثواب عظيم يقول ربنا: [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ].
وسائل معينة على الصبر:
ولما كان
الصبر على البلاء شديدًا على النفس فيحتاج لمزيد من
الصبر وملازمة ذكر الله وأن يشغل العبد قلبه بتحقيق
الصبر والرضا، ولهذا يحتاج العبد في هذه المرحلة عدة وسائل تعينه على الصبر ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى منها:
أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثانى: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجارى بها، وأنها مقدرة في أُم الكتاب قبل أن تخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء.
الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأُمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأْمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: (وَمَآ أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَكُمْ).
وهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذى هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة. قال على بن أبى طالب: "ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع بلاءٌ إلا بتوبة".
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضى رضاه بما رضى له به سيده ومولاه...
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرّعه، ولا يتقيأْه بتسخطه وشكواه، فيذهب نفعه باطلا.
الثامن: أن يعلم أن في عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحة وزوال الأَلم ما لم يحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته، فلينظر إلى عاقبته وحسن تأْثيره. قال الله تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُم، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
وقال الله تعالى: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)...
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءَت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه.
العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال.
جزاء الصابرين:
ولما كان
الصبر صعبا على النفس كان جزاؤه كبيرا عظيما قال عنه ربنا: " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ " وجاء في بِشارات الصابرين في القُرآن الكريم قوله: (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)؛ فقد وعدهم الله بالصلاة عليهم؛ بالمغفرة، والرأفة، وذكرها الله بصيغة الجَمع؛ للدلالة على الكَثرة، كما أن الصبر يُوجِب وجود مَعيّة الله تعالى للعبد وهي أغلى هدية للصابرين.
الحزن لا يعارض الصبر:
قد يحزن الإنسان بفطرته وتدمع عينه مثل حزن النبي على فقد ابنه لكنه لم يجزع ولم يسخط فهو راضٍ بقلبه ولم يعترض على قضاء الله تعالى، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محمودا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموما؛ فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير وبغض الشر وتوابع ذلك، وأما إن أفضى إلى ضعف القلب، واشتغاله به عن فعل ما أمر الله ورسوله به كان مذموما عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودا من جهة أخرى".