كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالا أعلى في الوقار، رغم تواضعه مع أصحابه ومزاحه معهم، إلا أنه ومع ضحكه لم يتخلى عن حزمه وجده، بل أنه نهى عن كثرة المزاح، ولكنه لم يحرم المزاح على المطلق، فكان النبي قريبٌ من أصحابه، و فيما أثر عنه أنه ما من صحابيٍ عامله إلا شعر بأنه أقرب الناس إليه.
فكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس مع أصحابه يبسط إليهم رداءه، ويطلق لهم وجهه دون أن يشعرهم أنه نبيٌ عظيم، وأن بينه وبينهم مسافاتٍ شاسعة، هذا الشعور لم يكن عند أصحاب رسول الله مهما بالغوا في أدبهم معه، إلا أنهم يشعرون أنهم قريبون منه، وقريبٌ منهم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا جلس مع أصحابه وتحدثوا في حديثٍ مباحٍ من أمر الدنيا، شاركهم في الحديث تأليفاً لقلوبهم، وتطييباً لخواطرهم، وإيناساً لهم.
فعن خارجة بن زيد أن نفراً دخلوا على أبيه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقالوا:((حَدِّثْنَا عَنْ بَعْضِ أَخْلاَقِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : كُنْتُ جَارَهُ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ الوحي بَعَثَ إِلَىَّ فَأَتَيْتُهُ فَأَكْتُبُ الوحي ـ وَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا )).
طريقة النبي في التعامل مع أصحابه
وكان صلى الله عليه وسلم يربي بالضحكة، ويهذب بالابتسامة، ويُقوّم بالمزحة، ويدعو بالطرفة، فلضحكاته منافع، ولابتساماته مقاصد، ومن ممازحته عِبر، ولطُرَفه حِكَم وعظات.
فهذا علي رضي الله عنه حين دب خلاف بينه وبين فاطمة -رضي الله عنهما- يصالحه النبي صلى الله عليه وسلم بالمزاح، يحكي لنا سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل (وقت القيلولة) عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب”. فكان أبو تراب أحب الألفاظ إلى علي رضي الله عنه .
وهذا أسيد بن حضير يمازحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدِّث القوم ويضحكهم فيطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعه في خاصرته، فقال: أوجعتني، فقال: أصبرني. قال: اصطبر، قال: إن عليك قميصا وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه. قال: إنما أردت هذا يا رسول الله”.
ومن مداعبته صلى الله عليه وسلم مع النساء، ما حكت عائشة -رضي الله عنها- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : إن الجنة لا يدخلها عجوز، فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : إن ذلك كذلك؛ إن الله إذا أدخلهن الجنة حوّلهن أبكارا.
كما كان صلى الله عليه وسلم يداعب الصغار، يقول أنس رضي الله عنه : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى إن كان ليقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير، ما فعل النغير”. ويداعب أنسا رضي الله عنه ويقول له: “يا ذا الأذنين”.
ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم أنسا رضي الله عنه يوما.. ولنترك أنسا رضي الله عنه يقص علينا الخبر: يقول أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك. فقال: يا أنيس، ذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم “.
اظهار أخبار متعلقة
التوفيق بين مزاح النبي وبين نهيه عن المِزاح
قال سيدنا عمر رضي الله عنه: " من كثر مزاحه قلَّت هيبته، ومن مزح استخفَّ به"، والتفسير: من أكثر من المزاح، أو من مزح مزاحاً فيه أذىً، أو فيه تحقير لشخصٍ ما، أو لفئةٍ ما، ذهبت هيبته، و لربما لحقه الأذى، فهناك مزاح يسبب أذى و يلحق بصاحبه الضرر.
وروى أبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:((لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا)).
وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:((حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)).
ويوم الخندق كان زيد بن ثابت ينقل التراب مع المسلمين، فنعس - أراد أن ينام أو غلبه النوم - فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه وهو لا يشعر، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا المزاح يؤذي، إنه مزاح يخيف، و مزاح يحرج.
وروي عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رجلاً أخذ نعل رجلٍ فغيَّبها وهو يمزح، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام:((لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلمٌ عظيم)).