بنو إسرائيل ، معروفون في التاريخ بعنادهم واستكبارهم ، وكثرة جدلهم مع أنبيائهم خصوصًا مع نبي الله موسى عليه وعلى نبينا السلام وكانت هذه السلوكيات بوابة لغضب الله عليهم وملاحقتهم بالعقوبات تلو الأخري ومن هذه العقوبة "التيه " الذي عانوا منهم بسبب معصيتهم لأوامر ربهم .
المقصود بالتيه هنا يتعلق بعدم دخولهم إلى أرض الله التي كتب عليهم محاربة أهلها ورفضوا ذلك تمام الرفض ، قال تعالى مناديًا بني إسرائيل على لسان نبيه موسى عليه السلام : "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ 21و22 سورة المائدة.
من الثابت التأكيد ان الله تعالى قد فضل بني إسرائيل ولكنهم لم يحفظوا نعم الله عليهم ، بل تمردوا وجادلوا ، وقتلوا الأنبياء وعصوا ما أمروا به ، وكانت نعم الله عليهم لا تعد ولا تحصى فقد فضلهم الله على العالمين كما جاء في سورة البقرة ، وأنجاهم من فرعون وعمله .
نعم الله استمرت علي بني إسرائيل إذ أخرجهم من مصر وأغرق فرعون وجيشه وجعلها آية لمن بعده ، ومن الأمثال التي ذكرها الله تعالى في القرآن لبيان جدلهم منها جدلهم في ذبح البقرة ، وقصة السامري الذي جعل لهم إله ، وقد أُمروا ألا يعبدوا إلا الله وحده لا شريك له.
من المهم الإشارة إلي أن معاناة بني إسرائيل وقعت بسبب عصيانهم لأمر موسى عليه السلام ، ورفضهم إطاعة أمر الله جُبنًا منهم ومخافة الحرب ، خصوصا أن القوم الذين أمروا أن يحاربهم كانوا قومًا تميزوا بالقوة الشديدة والتجبر وهم الكنعانيين بفلسطين .
نبي الله موسى عليه السلام طلب من بني إسرائيل الاستعداد للجهاد ولقاء الكنعانيين في سبيل الله ، ولكنهم جبنوا وخافوا وعصوا أمر رسولهم بل واختلفوا فيما بينهم في أمر الحرب .بعد أن قسم نبي الله قومه إلى أقسام وجعل عليهم اثنى عشر نقيبًا ، وسار هؤلاء إلى الأرض يستطلعون الأخبار ولكنهم عادوا بأخبار كانت سبب في بث الرعب وتثبيط العزم بين القوم مما حدثوهم عن قوة الكنعانيين ،
الخلافات استمرت في صفوف بني إسرائيل بعد دعوة النبي موسى عليه السلام للقتال ، وهو أمر عكسه القصص القرآني فيما برجلين مؤمنين من بني إسرائيل قد حثا قومها على الحرب ، فلما يخافا من أهل المدينة ، ولكن خوفهم الأشد كان من المولى سبحانه.
دعوة الرجلين لبني إسرائيل لم تجد استجابة بل أنهم قالوا : اذهب فقاتل من تشاء فإننا لن نقاتلهم أبدًا ؛ استهتارًا واستهزاء به عليه السلام فكان جزاؤهم أن دعا عليهم سيدنا موسى عليه السلام ، فاستجاب الله له وكتب الله عليهم حرمانهم من دخول الأرض المقدسة .
وعن الكيفية التي حدث بها التيه أنه كان من جزاء الله ، وعقابه على عصيانهم أوامره أنهم كانوا لا يهتدون إلى طريقٍ أبدًا ، وظلوا فترة طويلة في الصحراء ، ولا يبقون في الصحراء مطمئنين أبدًا ، ولكن كيف يتيه هذا العدد الضخم من الناس في الصحراء؟.
ومما يزيد العجب أن بني إسرائيل ليسوا بأفراد معدودة إنهم أمة كاملة ، ولهم خبرة بطرق الصحراء وشعابها المختلفة ، ولم تكن مدته صغيرة بل العكس لقد امتد سنوات وسنوات لدرجة موت أقوام وولادة أقوام أخرى ، لا يعلم أحد كيف حدث ذلك ولكنه من أشد العقاب.
وبحسب أهل العلم جرت خلال سنوات التيه أحداث خارقة للطبيعة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام كتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، كما أنهم يقولون موت هارون حدث خلال هذه الفترة ، وكذلك موسى عليه السلام ، وفيه أنزلت التوراة عليهم.
اقرأ أيضا:
حبيب النجار .. مؤمن آل ياسين .. وقرية عصت الله فأهلكها .. ولماذا أرسل الله إليها ثلاثة من الأنبياء؟ وهذا مكانها حالياقصة للاعتبار:
عندما أورد لنا القرآن الكريم قصة خذلان بني إسرائيل لنبي الله موسى ورفضهم دخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لعباده المؤمنين بحجة الخوف والجبن، أشار إلى معضلة نفسية غريبة، وهي: أن يتعالى الجبن والخوف الشديد ويتحول إلى وقاحة شديدة في حق موسى وربه فقالوا (إذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون).
هذه الجبن المغمس بالوقاحة في حق الله مع كل ما جاء به موسى من بينات أسقط القوم من عين نبيهم، وكأني أراه يضرب كفيه حسرة على قوم قتلهم الخوف من الناس قبل أن يقتلهم الناس، بعدما رأوا نصر الله لهم على طاغية زمانهم فرعون، فدعا ربه (إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين)، طلب ينبئ عن ألم يعتصر قلب النبي المرسل، وشعور بخذلان عظيم من قومه وعدم اعتراف بقوة الله وعونه، وأنفاس حرّى ملؤها الألم.
فما كان من الله العزيز الحكيم إلا أن يجيب دعوة نبيه الهمام، فحكم حكماً وعاقبهم عقوبة وواسى عبده:
1- حكم بأن هذه الأرض المقدسة (محرمة عليهم)، فهي أطهر وأقدس من أن يدخلها الفاسقون فاتحين.
2- وعاقبهم بـ (أربعين سنة يتيهون في الأرض)، ولعلها من أعجب العقوبات الربانية، فالتيه في الأرض جغرافيا وفي هذه المدة الطويلة ينعكس بظلال مؤلمة على النفس جراء شنيع فعلتهم ووقاحتهم، وهي كفيلة أن يشعروا بشعور الخذلان الذي قطّع قلب نبي الله موسى وأخيه، فنبي الله قد تحمل معهم حملاً ثقيلاً لم يخفف منه إلا ارتباطه بالعظيم وكلامه المباشر معه، وبهذه المدة الطويلة يبدّل الله جيل الجبن والوقاحة والخذلان، بجيل تربى على الحق المنشود، يسمع حكاية النبي الذي كابد التعب والنصب مع قوم خذلوه، ويتشرب معاني العزة والكبرياء من قسوة الصحراء، ويغير عالم أفكاره الصدأ وتصديق فعل الأقدمين إلى أفكار النبوة الحية حتى لو قضى موسى نحبه.
3- وواسى نبيه المرهق فقال (فلا تأس على القوم الفاسقين)، فقد خسروا دنياهم وأخراهم، وفاتتهم العزة بأيديهم، فالعبرة بالجيل العائد من لجّة التيه.
وهذا ما جرى، فانتفض الجيل الجديد بقيادة نبي الله يوشع بن نون ودخلوها أطهارا شجعانا فاتحين، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البخاري.